فصل: فصل: (في الحداد)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***


فصل‏:‏ ‏[‏في اقتران الطلاق بالمشيئة‏]‏

‏(‏ولو قال لها‏:‏ أنت طالق إن شاء الله، أو ما شاء الله، أو ما لم يشإ الله، أو إلا أن يشاء الله لا يقع شيء إن وصل‏)‏ والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من حلف بطلاق أو عتاق وقال إن شاء الله متصلا به لا حنث عليه‏)‏ ولأنه تعليق بشرط لا يعلم وجوده فلا يقع بالشك، إذ المعلق بالشرط عدم قبله، وكذا إذا علقه بمشيئة من لا تعلم مشيئته من الخلق كالملائكة والشيطان والجن؛ ويصح الاستثناء موصولا لا مفصولا لما روينا، ولأنه إذا سكت ثبت حكم الأول، فيكون الاستثناء أو التعليق بعده رجوعا عنه فلا يقبل، ولو سكت قدر ما تنفس أو عطس أو تجشأ أو كان بلسانه ثقل فطال تردده ثم قال إن شاء الله صح الاستثناء، وإن تنفس باختياره بطل؛ ولو حرك لسانه بالاستثناء صح عند الكرخي وإن لم يكن مسموعا‏.‏ وقال الهندواني‏:‏ لا يصح ما لم يكن مسموعا‏.‏ ولو قال أنت طالق فجرى على لسانه إن شاء الله من غير قصد بلا يقع كما لو قال أنت طالق فجرى لسانه أو غير طالق؛ ولو قال‏:‏ أنت طالق ثلاثا، وثلاثا إن شاء الله، أو ثلاثا وواحدة إن شاء الله بطل الاستثناء، وقالا‏:‏ هو صحيح، وكذا لو قال لعبده‏:‏ أنت حر وحر إن شاء الله، لأن الكلام واحد إنما يتم بآخره وأنه متصل‏.‏ ولأبي حنيفة أنه استثناء منقطع لأن قوله وثلاثا أو واحدة أو حر لغو لا فائدة فيه فكان قاطعا؛ ولو قال‏:‏ أنت طالق واحدة وثلاثا إن شاء الله صح بالإجماع، وكذلك أنت طالق وطالق وطالق إن شاء الله لأنه يتخلل بينهما كلام لغو‏.‏ ‏(‏ولو قال‏:‏ أنت طالق ثلاثا إلا واحدة طلقت ثنتين، ولو قال‏:‏ إلا ثنتين طلقت واحدة‏)‏ وأصله أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا لأنه بيان أنه أراد ما تكلم بما وراء المستثنى‏.‏ ‏(‏ولا يصح استثناء الكل من الكل، فلو قال‏:‏ أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا وقع الثلاث‏)‏ وبطل الاستثناء، ولو قال‏:‏ أنت طالق ثلاثا وثلاثا إلا أربعا وقع ثلاث عند أبي حنيفة، وعلى قياس قولهما تقع واحدة بناء على ما تقدم ‏(‏ولو قال‏:‏ أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وواحدة وواحدة بطل الاستثناء‏)‏ لأنه استثنى الكل ‏(‏ولو قال‏:‏ أنت طالق عشرة إلا تسعة وقعت واحدة، ولو قال‏:‏ إلا ثمانية فثنتان‏)‏ وأصله أنه إذا أوقع أكثر من الثلاث ثم استثنى والكلام كله صحيح فالاستثناء عامل في جملة الكلام ولا يكون مستثنيا من جملة الثلاث التي يصح وقوعها فيقع الاستثناء من جملة الكلام ويقع ما بقي إن كان ثلاثا أو أقل، لأن الاستثناء يتبع اللفظ ولا يتبع الحكم‏.‏ والجملة المتلفظ بها جملة واحدة فيدخل الاستثناء عليها فيسقط ما تضمنه الاستثناء، وتقع بقية الجملة إن كان مما يصح وقوعه‏.‏ ولو قال‏:‏ أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة وقعت واحدة لأنه يجعل كل استثناء مما يليه، فإذا استثنيت الواحدة من الثلاثة بقيت ثنتان، وإذا استثنيتهما من الثلاث بقيت واحدة، كأنه قال‏:‏ أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين، فإن قال‏:‏ أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة تقع واحدة لأنه استثنى الواحدة من الثنتين فتبقى واحدة فيستثنيها من الثلاث يبقى ثنتان يستثنيهما من الثلاث تبقى واحدة، وكذا لو قال‏:‏ عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة تقع ثنتان لأنه استثنى السبعة من الثمانية تبقى واحدة، ثم استثنى الواحدة من التسعة تبقى ثمانية، ثم استثنى الثمانية من العشرة تبقى ثنتان، وعلى هذا جميع هذا النوع، وتقريبه أن تعقد العدد الأول بيمينك والثاني بيسارك والثالث بيمينك والرابع بيسارك، ثم أسقط ما اجتمع في يسارك مما اجتمع بيمينك فما بقي فهو الموقع‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في طلاق المريض‏]‏

‏(‏ومن أبان امرأته في مرضه ثم مات ورثته إن كانت في العدة، وإن انقضت عدتها لم ترث‏)‏ وأصله أن الزوجية في مرض الموت سبب يفضي إلى الإرث غالبا، فإبطاله يكون ضررا بصاحبه، فوجب رده دفعا لهذا الضرر في حق الإرث ما دامت في العدة كما في الطلاق الرجعي وتعذر إبقاء الزوجية بعد انقضاء العدة لأنه لم يبق له أثر ولا حكم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن أبانها بأمرها، أو جاءت الفرقة من جهتها في مرضه لم ترث كالمخيرة، والمخيرة بسبب الجب والعنة والبلوغ والعتق‏)‏ لأنا إنما اعتبرنا قيام الزوجية مع المبطل نظرا لها، فإذا رضيت بالمبطل لم تبق مستحقة للنظر فعمل المبطل وهو الطلاق عمله ‏(‏ولو فعلت ما ذكرنا من الخيارات وهي مريضة ورثها إذا ماتت وهي في العدة‏)‏ لأنها ممنوعة من إبطال حقه فبقينا النكاح في حق الإرث دفعا للضرر عنه إلا في الجب والعنة فإنه لا يرثها لأنه طلاق وهو مضاف إلى الزوج‏.‏ ‏(‏ومرض الموت هو المرض الذي أضناه وأعجزه عن القيام بحوائجه، فأما من يجيء ويذهب بحوائجه ويحم فلا‏)‏ وقيل إن أمكنه القيام بحوائجه في البيت وعجز عنها خارج البيت فهو مريض‏.‏ وعن أبي حنيفة إذا كان مضني لا يقوم إلا بشدة وتتعذر عليه الصلاة جالسا فهو مريض، والمحصور والواقف في صف القتال والمحبوس للرجم والقصاص وراكب السفينة والنازل في مسبعة يخاف الهلاك كالصحيح لأن الغالب فيه السلامة، ومن قدم للقصاص والرجم أو بارز رجلا أو انكسرت السفينة وبقي على لوح أو وقع في فم سبع كالمريض، وكذلك المرأة إذا ضربها الطلق‏.‏

أما المقعد والمفلوج ومن في معناه كالصحيح؛ وإذا كان أحد الزوجين ممن لا يرث الآخر كالعبد والمكاتب مع الحرة، والحرة الكتابية مع المسلم، فطلقها ثلاثا في مرضه ثم صار في حال يتوارثان لو لم يقع الطلاق لا ترثه، لأنه لم يتعلق حقها بماله حالة الطلاق فلم يكن فارا فلا يتهم‏.‏ ‏(‏ولو علق طلاق امرأته بفعله وفعله في المرض ورثت‏)‏ سواء كان التعليق في الصحة أو المرض لأنه قصد إضرارها حيث باشر شرط الحنث في المرض، وسواء كان له بد من الفعل أو لم يكن، أما إذا كان فظاهر، وأما إذا لم يكن فلأن له بدا من التعليق فكان مضافا إليه ‏(‏وإن علقه بفعل أجنبي أو بمجيء الوقت في المرض مثل قوله‏:‏ إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق، أو إن دخل فلان الدار أو صلى الظهر فأنت طالق، فإن كان التعليق والشرط في المرض ورثت‏)‏ لأنه قصد إضرارها بمباشرة التعليق في المرض حال تعلق حقها بماله‏.‏ ‏(‏وإن كان التعليق في الصحة والشرط في المرض لم ترث‏)‏ خلافا لزفر، لأن المعلق بالشرط ينزل عند الشرط فصار كالمنجز في المرض‏.‏ ولنا أنه إنما يصير تطليقا عند الشرط حكما لا قصدا ولا ظلم إلا عند القصد ‏(‏وإن علقه بفعلها ولها منه بد لم ترث على كل حال‏)‏ لأنها راضية ‏(‏وإن لم يكن لها منه بد كالصلاة وكلام الأقارب وأكل الطعام واستيفاء الدين ورثت‏)‏‏.‏ وقال محمد‏:‏ إذا كان التعليق في الصحة لا ترث لأنه لا صنع له في إبطال الشرط فلم يقصد إبطال حقها‏.‏ ولهما أنها مضطرة إلى المباشرة في هذه الأشياء لما يتعلق بتركها من العقاب في الآخرة والضرر في الدنيا والزوج هو الذي ألجأها إلى المباشرة فينتقل فعلها إليه وتصير كالآلة كما قلنا في الإكراه، وإنما يكون مرض الموت إذا مات منه، أما لو برأ ثم مات انقطع حكم المرض الأول‏.‏

فصل‏:‏ في طلاق المجهولة

أصله إن إضافة الطلاق إلى مجهولة ليس إلا تعليق الطلاق في المعينة بالبيان لأنه لا يقع على مجهولة وإنما يقع على المعينة، وإنما ينزل بالبيان مقصورا عليه فكان للبيان حكم الإنشاء في حق المعينة، والإنشاء لا يملك إلا بملك المحل، فلو قال لامرأتيه إحداكما طالق طلقت واحدة منهما بغير عينها إذا لم يكن له نية في معينة منهما لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏كل طلاق جائز‏)‏ الحديث، ولأن الجهالة مع الخطأ أجريا مجرى واحد، ألا ترى أنهما يمنعان البيع، ثم الطلاق يقع مع الحظر فكذا مع الجهالة، ولأن البيع مع ضعفه يصح مع هذا الضرب من الجهالة حتى جاز بيع قفيز من صبرة فلأن يصح الطلاق معه أولى، وللنساء أن يخاصمنه ويستعدين عليه إلى القاضي حتى يبين إذا كان الطلاق ثلاثا أو بائنا، لأن لكل واحدة منهن حقا في استيفاء منافع النكاح وأحكامه، أو التوصل إلى التزوج بزوج آخر، وكان على الزوج البيان والقول قوله لأنه المجمل كمن أقر بشيء غير معين، ويجبره القاضي أن يوقع الطلاق على معينة لتحصل الفائدة، وعليها العدة من حين بين لما تقدم، فإن لم يبين حتى ماتت إحداهما طلقت الباقية، لأنه لم يبق من يستحق الطلاق غيرها‏.‏ وإن قال أردت الميتة لم يرثها وطلقت الباقية، فيصدق في الميتة على نفسه في إسقاط إرثه، ولا يصدق على الباقية في صرف الطلاق عنها، فإن ماتتا واحدة بعد الأخرى فقال أردت الأولى لم يرث منهما لأنه سقط من الثانية بطريق الحكم ومن الأولى باعترافه، ولو ماتتا معا ورث من كل واحدة منهما نصف ميراث، فإن قال أردت إحداهما سقط حقه من ميراثها ويرث من الأخرى نصف ميراثها لأنه لا يصدق في زيادة الاستحقاق؛ ولو جامع إحداهما تعينت الأخرى للطلاق، لأن الجماع دليل على تعيين الأخرى للطلاق لاستحالة أن يطأ المطلقة، وكذلك لو قبلها أو حلف بطلاقها أو ظاهر منها، لأن هذه الأحكام من خواص الزوجية فصارت كالجماع؛ ولو طلق إحداهما بعينها وعنى به البيان صدق‏.‏ وإن لم ينو به البيان تعينت الأخرى للطلاق الأول‏.‏ وعن محمد‏:‏ لو كان الطلاق واحدة رجعية لم يكن وطء إحداهما بيانا للأخرى؛ ولو مات الزوج قبل البيان فالميراث بينهم الربع أو الثمن، لأن إحداهما زوجة قطعا وليست إحداهما أولى من الأخرى؛ ولو طلق إحدى نسائه الأربع ثلاثا ثم اشتبهت وأنكرت كل واحدة أن تكون هي المطلقة لا يقرب واحدة منهن لأنه حرمت عليه إحداهن، ويجوز أن تكون كل واحدة‏.‏ وقد قال أصحابنا‏:‏ كل ما يباح عند الضرورة لا يجوز التحري فيه والفروج من هذا الباب، ولهذا قالوا‏:‏ إذا اختلطت الميتة بالمذبوحة إنه يتحرى لأن الميتة تباح عند الضرورة‏.‏ وإن استعدين عليه لأن الحاكم في النفقة والجماع أعدى عليه وحبسه حتى يبين التي طلق منهن، ويلزمه نفقتهن لأن لكل واحدة منهن حق المطالبة بأحكام النكاح، فكان على الحاكم إلزامه إيفاء للحق، ويقضي عليه بنفقتهن لأنها تجب للمعتدة وللزوجة‏.‏ وينبغي أن يطلق كل واحدة طلقة واحدة، فإذا تزوجن بغيره جاز له التزوج بهن، فإن لم يتزوجن فالأفضل أن لا يتزوجن بواحدة، ولو تزوج بالثلاث صح نكاحهن وتعينت الرابعة للطلاق؛ وليس له أن يتزوج بالكل قبل أن يتزوجن بزوج آخر، فإن تزوجت واحدة منهن بزوج ودخل بها ثم تزوج الكل ذكر في الجامع أنه يجوز نكاح الكل، لأن الظاهر من حال المتزوجة إنما هي المطلقة ثلاثا حيث أقدمت على النكاح للتحليل؛ ولو ادعت كل واحدة أنها المطلقة ثلاثا يحلف الزوج فإن نكل وقع على كل واحدة الثلاث، لأنه بالنكول صار باذلا أو مقرا لها بالثلاث‏.‏ وإن حلف لهن فالحكم كما قلنا قبل اليمين‏.‏ وعن محمد‏:‏ إذا حلف لإحدى المرأتين طلقت الأخرى، وإن لم يحلف للأولى طلقت، وإن تشاحا على اليمين حلف لهما بالله ما طلق واحدة منهما، فإن حلف فالأمر على ما كان، وإن نكل طلقتا على ما بينا، فإن وطئ إحداهما فالتي لم يطأها مطلقة حملا لأمره على الصلاح أنه لم يطأها حراما‏.‏

باب الرجعة

وهي مصدر رجعه يرجعه رجعا ورجعة‏:‏ إذا أعاده ورده، يقال‏:‏ رجعت الأمر إلى أوائله‏:‏ إذا رددته إلى ابتدائه‏.‏ قال‏:‏ عسى الأيام أن يرجعن قوما كالذي كانوا وفي الشرع رد الزوجة إلى زوجها وإعادتها إلى الحالة التي كانت عليها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء‏)‏ وهو أن يطلق الحرة واحدة أو ثنتين بصريح الطلاق من غير عوض والدليل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبعولتهن أحق بردهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ والبعل هنا الزوج، ولا زوج إلا بقيام الزوجية، وقيام الزوجية يوجب حل الوطء بالنص والإجماع، ولأن الله تعالى أثبت للزوج حق الرد من غير رضاها، والإنسان إنما يملك رد المنكوحة إلى الحالة التي كانت عليها قبل الطلاق فلا يكون النكاح زائدا ما دامت العدة باقية فيحل الوطء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وللزوج مراجعتها في العدة بغير رضاها‏)‏ لما تلونا ولا خلاف فيه، ولأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في ذلك ‏(‏أي في العدة لأنها مذكورة قبله، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأمسكوهن بمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏ والمراد الرجعة لأنه ذكره بعد الطلاق، ثم قال‏:‏ ‏(‏أو فارقوهن بمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏ ولقوله عليه الصلاة والسلام لعمر‏:‏ ‏(‏مر ابنك فليراجعها‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتثبت الرجعة بقوله‏:‏ راجعتك ورجعتك ورددتك، وأمسكتك‏)‏ لأنه صريح فيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وبكل فعل تثبت به حرمة المصاهرة من الجانبين‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأمسكوهن بمعروف‏}‏ والإمساك بالفعل أقوى منه بالقول، ولأن الرجعة استدامة النكاح واستبقاؤه وهذه الأفعال تدل على ذلك، وليست الرجعة بابتداء نكاح على ما زعمه بعضهم، لأنا أجمعنا على أنه يملكها من غير رضاها ولا يشترط فيها الإيجاب والقبول، ولا يجب فيها مهر ولا عوض، لأن العوض إنما يجب عوضا عن ملك البضع، والبضع في ملكه، ولو كان نكاحا مبتدأ لوجب، والخلوة ليست برجعة، لأنه لم يوجد ما يدل على الرجعة لا قولا ولا فعلا، ولا يصح تعليق الرجعة بالشرط لأنه استدراك فلا يصح بالتعليق كإسقاط الخيار، ولو قال لها‏:‏ أنت عندي كما كنت أو أنت امرأتي ونوى الرجعة صح وإلا فلا، ويستحب أن يعلمها بالرجعة لتتخلص من قيد العدة، وإن لم يعلمها جاز؛ وليس له أن يسافر بها حتى يشهد على رجعتها لأنه لا يجوز للمعتدة الخروج من منزلها، فإذا راجعها لم تبق معتدة فيجوز لها الخروج، وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويستحب أن يشهد على الرجعة‏)‏ لأن النصوص الدالة على الرجعة خالية عن قيد الشهادة، ولما تقدم أنها استدامة للنكاح، والشهادة ليست بشرط حالة الاستدامة، وإنما استحببناه تحرزا عن التجاحد، وهو محمل قوله تعالى عقيب ذكر الرجعة والطلاق‏)‏ وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ وهكذا هو محمول في الطلاق أيضا توفيقا بينه وبين النصوص الدالة على جواز الرجعة ووقوع الطلاق الخالية عن قيد الإشهاد‏.‏ ‏(‏فإن قال لها بعد العدة‏:‏ كنت راجعتك في العدة فصدقته صحت الرجعة، وإن كذبته لم تصح‏)‏ لأنه متهم في ذلك وقد كذبته فلا يثبت إلا ببينة، فإذا صدقته ارتفعت التهمة ‏(‏ولا يمين عليها‏)‏ عند أبي حنيفة، وهي مسألة الاستحلاف في الأشياء الستة، وقد سبقت في الدعوى بتوفيق الله تعالى ‏(‏وإن قال لها‏:‏ راجعتك، فقالت مجيبة له‏:‏ انقضت عدتي فلا رجعة‏)‏ وقالا‏:‏ تصح الرجعة لأن الرجعة لا تتوقف على قبولها، فلما قال راجعتك صحت الرجعة لأن الظاهر بقاء العدة، ولهذا لو قال طلقتك، فقالت قد انقضت عدتي وقع الطلاق فصار كما إذا سكت ساعة ثم قالت‏.‏ ولأبي حنيفة أنها لما أخبرت بانقضاء عدتها فالظاهر تقدم انقطاع الدم على ذلك لأنها أخبرت بلفظ الماضي، والظاهر أنها صادقة، وأقرب أوقات الماضي وقت قوله، ومسألة الطلاق على الخلاف، ولئن سلمت فنقول‏:‏ الطلاق يقع بناء على إقراره، ولو أقر بعد انقضاء العدة حكم به، بخلاف ما إذا سكتت ساعة لأنها تثبت الرجعة بسكوتها فلا يقبل قولها بعد ذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا قال زوج الأمة‏:‏ راجعتها في العدة وصدقه المولى وكذبته الأمة أو بالعكس فلا رجعة‏)‏ وقالا‏:‏ إذا صدقه المولى صحت الرجعة لأنه أقر له بما هو خالص حقه فصار كما إذا أقر عليها بالنكاح‏.‏ ولأبي حنيفة أن القول قولها في العدة والرجعة تنبني عليها؛ وأما إذا كذبه المولى وصدقته فعن أبي حنيفة روايتان، والفرق على إحدى الروايتين أن العدة منقضية في الحال وصار ملك المتعة للمولى فلا تملك إبطاله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا انقطع الدم في الحيضة الثالثة لعشرة أيام انقطعت الرجعة وإن لم تغتسل‏)‏ لأنها خرجت من الحيضة الثالثة فقد انقضت العدة‏.‏ ‏(‏وإن انقطع لأقل من عشرة أيام لم تنقطع حتى تغتسل، أو يمضي عليها وقت صلاة، أو تتيمم وتصلي‏)‏ لاحتمال عود الدم فلا بد من دخولها في حكم الطاهرات وذلك بالغسل أو بمضي وقت صلاة لأنها تصير مخاطبة بها، وهو من أحكام الطاهرات، وكذا إذا تيممت وصلّت، والقياس أن تنقطع بمجرد التيمم، وهو قول محمد وزفر، لأن التيمم كالغسل عند عدم الماء‏.‏ وجه الاستحسان أن التيمم إنما اعتبر طهارة ضرورة كيلا تتضاعف عليه الواجبات، أما إنه مطهر في نفسه فلا بل هو ملوّث، وهذه الضرورة تتحقق إذا أرادت الصلاة لا قبل ذلك ولا كذلك الغسل، ولو تيممت وقرأت القرآن أو مست المصحف أو دخلت المسجد‏.‏ قال الكرخي‏:‏ انقطعت الرجعة لأنها من أحكام الطاهرات‏.‏ وقال أبو بكر الرازي‏:‏ لا لأنها ليست من أحكام الصلاة ولو اغتسلت بسؤر الحمار انقطعت، ولا تحل للأزواج أخذا بالاحتياط‏.‏ ‏(‏وفي الكتابية تنقطع الرجعة بمجرد انقطاع الدم‏)‏ لأنه لا غسل عليها فصارت كالمسلمة إذا اغتسلت ‏(‏فإن اغتسلت ونسيت شيئا من بدنها، فإن كان أقل من عضو انقطعت الرجعة ولا تحل للأزواج‏)‏ لأنه قليل يتسارع إليه الجفاف فلم نتيقن بعدم غسله، فقلنا بانقطاع الرجعة وعدم حل التزوج أخذا بالاحتياط ‏(‏وإن كان عضوا لم تنقطع‏)‏ لأنه كثيرا لا يتسارع إليه الجفاف فافترقا، والمضمضة والاستنشاق كالعضو عند أبي يوسف لأن الحدث باق في عضو‏.‏ وعند محمد لا لوقوع الاختلاف في فرضيتهما فينقطع حق الرجعة، ولا تحل للأزواج احتياطا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن طلق امرأته وهي حامل وقال لم أجامعها فله الرجعة‏)‏ وكذا إذا ولدت منه لأن الحبل والولادة في وقت يمكن حبله منه يجعل منه، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الولد للفراش‏)‏ وإذا كان منه كان واطئا، والطلاق بعد الوطء يعقب الرجعة ‏(‏وإن قال ذلك بعد الخلوة الصحيحة فلا رجعة له‏)‏ لأن الرجعة إنما تثبت عقيب الطلاق في ملك متأكد بالوطء، وقد أقر بعدم الوطء فيثبت فيما له والرجعة حقه، بخلاف المهر لأن وجوبه بناء على تسليم المبدل لا على قبضه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا قال لها‏:‏ إذا ولدت فأنت طالق فولدت ثم ولدت آخر من بطن أخرى فهي رجعة‏)‏ لأن الطلاق وقع بالولد الأول، والولد الآخر يكون من علوق آخر في العدة حملا لحالهما على الصلاح فيصير مراجعا بالوطء لأنها لم تقر بانقضاء عدتها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمطلقة الرجعية تتشوّف وتتزين‏)‏ لقيام النكاح بينها وبين الزوج على ما بينا، والرجعة مستحبة والزينة حاملة عليها فتجوز ‏(‏ويستحب لزوجها أن لا يدخل عليها حتى يؤذنها‏)‏ إذا لم يكن قصده الرجعة لاحتمال أن يقع نظره عليها وهي متجردة فتحصل الرجعة ثم يطلقها فتطول عليها العدة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وله أن يتزوج مطلقته المبانة بدون الثلاث في العدة وبعدها‏)‏ لأن حل المحلية باق إذا زواله بالثالثة ولم توجد، وإنما لا يجوز لغيره في العدة تحرزا عن اشتباه الأنساب وهو معدوم في حقه ‏(‏والمبانة بالثلاث لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا ويدخل بها ثم تبين منه‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن طلقها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏ يعني الثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏ والنكاح المطلق في الشرع ينصرف إلى الصحيح حتى لو دخل بها في نكاح فاسد لا تحل للأول، وقوله‏:‏ ‏(‏حتى تنكح ‏(‏يقتضي الدخول لما ذكرنا أن النكاح الشرعي هو الوطء ولقوله زوجا ونكاح الزوج لا يكون إلا بالوطء، ويدل عليه الحديث المشهور وهو ما روي في الصحيح أن عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرظي كانت تحت ابن عمها رفاعة بن وهب فطلقها ثلاثا فجاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام قالت‏:‏ يا رسول الله إني كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وقال‏:‏ ‏(‏أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم، فقال‏:‏ ‏(‏حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته‏)‏ وسواء دخل بها في حيض أو نفاس أو إحرام لحصول الدخول‏.‏ ‏(‏ولا تحل للأول بملك اليمين ولا بوطء المولى‏)‏ لأن الشرط نكاح زوج غيره ولم يوجد ‏(‏والشرط هو الإيلاج دون الإنزال‏)‏ لحصول نكاح زوج غيره، والحديث ورد على غالب الحال، فإن الغالب في الجماع الإنزال أو نقول الكتاب عري عن ذكر الإنزال فلا يزاد عليه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وأن يكون المحلل يجامع مثله‏)‏ سواء كان مراهقا أو بالغا لوجود الشرط وهو الإيلاج، ولا يجوز صغير لا يقدر على الإيلاج لعدم الوطء المراد من النكاح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن تزوجها بشرط التحليل كره وحلت للأول‏)‏ وقال أبو يوسف‏:‏ النكاح فاسد لأنه كالمؤقت ولا تحل للأول لفساده، وقال محمد‏:‏ هو جائز لشروط الجواز ولا تحل للأول لأنه عجّل ما أخّره الشرع فيعاقب بالمنع كقتل المورث‏.‏ ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لعن الله المحلل والمحلل له‏)‏ ومراده النكاح بشرط التحليل فيكره للحديث وتحل للثاني لأنه عليه الصلاة والسلام سماه محللا وهو المثبت للحل، أو نقول وجد الدخول في نكاح صحيح، لأن النكاح لا يفسد بالشرط فتحل للأول، ولو تزوجها بقصد التحليل ولم يشرطه حلت للأول بالإجماع، والطلقتان في الأمة كالثلاث في الحرة لما مر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والزوج الثاني يهدم ما دون الثلاث‏)‏ وصورته إذا طلق امرأته طلقة أو طلقتين وانقضت عدتها وتزوجت بزوج آخر ودخل بها ثم طلقها وانقضت عدتها ثم تزوجها الأول عادت إليه بثلاث طلقات، وهدم الزوج الثاني الطلقة والطلقتين كما هدم الثلاث‏.‏ وقال محمد وزفر‏:‏ تعود إلى الأول بما بقي من الثلاث في النكاح الأول، لأن الزوج الثاني إنما يثبت الحل إذا انتهى، والحل لم ينته لأنها تحل له بالعقد قبله فلا يكون مثبتا له‏.‏ ولنا أنه وطء من زوج ثان فرفع الحكم المتعلق بالطلاق كما في الثلاث‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو طلقها ثلاثا فقالت‏:‏ قد انقضت عدتي وتحللت وانقضت عدتي والمدة تحتمله وغلب على ظنه صدقها جاز له أن يتزوجها‏)‏ لأنه إن كان أمرا دينيا فقول الواحد فيه مقبول كرواية الأخبار والإخبار عن القبلة وطهارة الماء، وإن كان معاملة فقول الواحد مقبول في المعاملات على ما عرف، وتمامه يعرف في باب العدة إن شاء الله تعالى‏.‏

باب الإيلاء

وهو في اللغة‏:‏ مطلق اليمين، قال‏:‏ قليل الألايا حافظ ليمينه وإن بدرت منه الألية برّت وفي الشرع‏:‏ اليمين على ترك وطء المنكوحة مدة مخصوصة، وقيل الحلف على ترك الوطء المكسب للطلاق عند مضي أربعة أشهر، فالاسم الشرعي فيه معنى اللغة‏.‏ وألفاظه صريح وكناية، فالصريح لا يحتاج إلى نية مثل قوله‏:‏ لا أقربك، لا أجامعك، لا أطؤك، لا أغتسل منك من جنابة، لا أفتضك إن كانت بكرا‏.‏ والكناية‏:‏ لا أمسك، لا آتيك، لا أدخل بك، لا أغشاك، لا يجمع رأسي ورأسك شيء، لا أبيت معك على فراش، لا أضاجعك، لا أقرب فراشك ونحوه، ولا بد فيه من النية‏.‏ وقال محمد‏:‏ إذا قال‏:‏ والله لا يمس جلدي جلدك لا يكون موليا لأنه يقدر على جماعها بغير مماسة بأن يلف على ذكره حريرة ولأنه يحنث بغير الجماع، والمولى من يقف حنثه على الجماع خاصة‏.‏ والأصل أن المولى من لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء يلزمه لأن حرمة الوطء إنما تنتهي بالحنث والحنث موجب للكفارة أو بشيء يلزمه، ولا يكون الإيلاء إلا بالحلف على ترك الجماع في الفرج لأن حقها في الجماع في الفرج فيتحقق الظلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إذا قال‏:‏ والله لا أقربك، أو لا أقربك أربعة أشهر فهو مول‏)‏ والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏ الآية، فتكون مدة الإيلاء أربعة أشهر من غير زيادة ولا نقصان، إذ لو كانت المدة أقل من ذلك أو أكثر لم يكن في التنصيص على الأربعة فائدة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وكذلك لو حلف بحج أو صوم أو صدقة أو عتق أو طلاق‏)‏ مثل أن يقول‏:‏ إن قربتك فلله عليّ الحج، أو يقول‏:‏ فلله عليّ صوم كذا، أو يجعل الجزاء صدقة، أو عتق عبد، أو طلاقها أو طلاق غيرها، لأن اليمين موجودة في ذلك كله، لأن اليمين بغير الله تعالى شرط وجزاء، لأن المقصود منها الحمل أو المنع، وهذه الأشياء توجب ذلك لما تتضمنه من المشقة، ولأنه لا يمكنه قربانها إلا بشيء يلزمه، وإذا وجدت اليمين فقد وجدت الإيلاء فدخل تحت التنص ولو قال‏:‏ إن قربتك فعليّ أن أصلي ركعتين أو أغزو لم يكن موليا‏.‏ وقال محمد‏:‏ هو مول لأنه يصح إيجابها بالنذر كالصوم والصدقة‏.‏ ولهما أن الصلاة ليست في حكم اليمين حتى لا يحلف بها عادة فصار كصلاة الجنازة وسجدة التلاوة‏.‏ ‏(‏فإن قربها في الأربعة الأشهر حنث‏)‏ لوجود شرطه ‏(‏وعليه الكفارة‏)‏ لأن الحنث موجب للكفارة ‏(‏وبطل الإيلاء‏)‏ لما بينا أن اليمين تنحل بالحنث ‏(‏وإن لم يقربها ومضت أربعة أشهر بانت بتطليقة‏)‏ هذا مذهب عامة الصحابة وتفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن عزموا الطلاق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 227‏]‏ أي عزموا الطلاق بالإيلاء السابق وهي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، وعنه عن ابن عباس رضي الله عنهم‏:‏ عزم الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر من غير فيء‏.‏ وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه‏)‏ فإن فاؤوا فيهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏ أي في الأربعة الأشهر، ولأنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏للذين يؤلون‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فإن فاؤوا ‏}‏ وإن عزموا الطلاق وهذه الفاء للتقسيم، فأحد القسمين يكون في المدة وهو الفيء، والآخر بعدها وهو الطلاق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا طلقتم النساء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏ لما ذكر المدة وجاء بالفاء كان للتقسيم، وكان الإمساك وهو الرجعة في المدة والتسريح وهو البينونة بعدها فكذلك هنا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن كانت اليمين أربعة أشهر فقد انحلت‏)‏ لانقضاء المدة ‏(‏وإن كانت مؤبدة، فإن عاد فتزوجها عاد الإيلاء على الوجه الذي بينا‏)‏ لبقاء اليمين، لأن اليمين لا تنتهي إلا بالحنث أو بمضي المدة المؤقتة، وإنما لم يقع طلاق آخر قبل التزوج، لأن الحرمة مضافة إلى البينونة لا إلى الإيلاء فلم يوجد المنع باليمين فإذا تزوجها ارتفعت الحرمة الثابتة بالبينونة وبقيت حرمة الإيلاء، فوجد منع الحق فترتب عليه حكمه ‏(‏فإن وطئها في الأربعة الأشهر من وقت التزوج حنث وإلا وقعت أخرى‏)‏ لما بينا ‏(‏فإن عاد فتزوجها فكذلك‏)‏ لما مر ‏(‏فإن تزوجها بعد زوج آخر فلا إيلاء‏)‏ معناه‏:‏ أنه لا يقع الطلاق بمضي المدة لانتهاء ما كان يملكه من الطلاق في النكاح الأول وفيه خلاف زفر وقد تقدم، إلا أن اليمين باقية لعدم الحنث ‏(‏فإن وطئ كفر للحنث‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وأقل مدة الإيلاء في الحرة أربعة أشهر‏)‏ فلو آلى أقل من أربع أشهر لا يكون موليا، لقول ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لا إيلاء فيما دون أربعة أشهر، ولما مر ‏(‏ومدة إيلاء الأمة شهران‏)‏ لما عرف أن الرق منصف، وأنها مدة ضربت للبينونة فتتنصف كالعدة، والآية تناولت الحرائر دون الإماء، لأن اسم النساء والزوجات عند الإطلاق ينصرف إلى الحرائر دون الإماء لأن معنى الأزواج في الإماء ناقص، لأن للمولى أن يستخدمها ولا يبوئها بيت الزوج، والاسم عند الإطلاق ينصرف إلى الكامل، فإن أعتقت في مدة الإيلاء تصير أربعة أشهر كما في العدة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن آلى من المطلقة الرجعية فهو مول، ومن البائنة لا‏)‏ لقيام الزوجية وحل الوطء في الأولى على ما بينا دون الثانية، فكانت الأولى من نسائهم دون الثانية؛ ولو حلف لا يقرب زوجته وأمته، أو زوجته وأجنبية لا يصير موليا ما لم يقرب الأجنبية أو أمته، فإذا قربها صار موليا، لأنه لا يمكنه قربانها بعد ذلك إلا بالكفارة؛ ولو قال لهما‏:‏ لا أقرب إحداكما كما لا يكون موليا كما إذا قال لزوجته وأمته‏:‏ إحداكما طالق، فإن قرب إحداهما لزمته الكفارة للحنث؛ ولو قال لهما‏:‏ لا أقرب واحدة منكما كان موليا من امرأته، لأن النكرة في النفي تعم، ولو قرب واحدة منهما حنث؛ ولو قال‏:‏ أنت عليّ مثل امرأة فلان، وقد كان فلان آلى من امرأته، فإن نوى الإيلاء كان موليا وإلا فلا؛ ولو قال‏:‏ أنت عليّ كالميتة ونوى اليمين يكون موليا لأنه بمنزلة الكناية؛ ولو آلى من امرأته ثم قال لأخرى‏:‏ أشركتك في إيلاء هذه لا يصير موليا، بخلاف الطلاق والظهار، لأنه لو اشتركا في الإيلاء يتغير حكم الإيلاء وهو لزوم الكفارة بقربان الأولى وحدها، وإذا صح الاشتراك لا تجب الكفارة ما لم يقربهما، ولا يمكن تغيير اليمين بعد انعقادها، ولا كذلك الطلاق والظهار‏.‏ وعن الكرخي‏:‏ لو قال لامرأته‏:‏ أنت عليّ حرام، ثم قال لأخرى‏:‏ أشركتك معها كان موليا منهما، لأن إثبات الشركة هنا لا يغير موجب اليمين وهو إثبات الحرمة، فإنه لو قال‏:‏ أنتما عليّ حرام كان موليا من كل واحدة منهما على حدة، ويلزمه بوطء كل واحدة كفارة، بخلاف قوله‏:‏ والله لا أقربكما لأنه إيلاء لما يلزمه من هتك حرمة الاسم وذلك لا يتحقق إلا بقربانهما؛ وإذا آلى العبد من امرأته فملكته لا يبقى الإيلاء، فلو باعته أو أعتقته ثم تزوجها عاد الإيلاء كما إذا حلف بعتق عبده إن وطئها فباعه ثم استرده عاد الإيلاء؛ ولو قال‏:‏ إن قربتك فكل مملوك أملكه في المستقبل حر فهو مول‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ لا يكون موليا لأنه يمكنه قربانها من غير شيء يلزمه بأن يقربها ولا يتملّك مملوكا أصلا‏.‏ ولهما أنه لا يقدر على الامتناع عن جميع أسباب التمليكات كالإرث، إذ في الامتناع عن الجميع مشقة ومضرة، وعلى هذا لو قال‏:‏ فكل امرأة أتزوجها فهي طالق، وعلى هذا إذا علق وطأها بعتق عبد بعينه، لأبي يوسف أنه يقدر على وطئها بغير شيء يلزمه أن يبيعه ثم يطأها‏.‏ ولهما أنه لا يوصل إلى ذلك إلا بالحنث غالبا أو بالبيع وأنه مشقة أيضا‏.‏ ‏(‏وإن قال‏:‏ لا أقربك شهرين بعد شهرين فهو مول‏)‏ لأن الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع؛ ولو سكت ساعة ثم قال‏:‏ وشهرين بعد الشهرين الأولين لا يكون موليا، لأن ابتداء اليمين الثانية حين حلف فقد تخلل بين الأربعة الأشهر وقت ليس موليا فيه فلم توجد مدة الإيلاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو قال‏:‏ لا أقربك سنة إلا يوما فليس بمول‏)‏ خلافا لزفر، وهو يصرف اليوم إلى آخر السنة كالإجارة فصار كما إذا تلفظ به‏.‏ ولنا أنه يمكنه قربانها من غير شيء يلزمه وذلك في اليوم المستثنى وهو يوم منكر له أن يجعله أيّ يوم شاء، فإن قربها وقد بقي من السنة أربعة أشهر صار موليا لسقوط الاستثناء بخلاف الإجارة لأنه يصرف إلى آخر السنة تصحيحا لها لأنها لا تصح مع التنكير‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تحريم الزوجة‏]‏

وإذا كان أحد الزوجين مريضا لا يقدر على الجماع، أو هو مجبوب أو هي رتقاء، أو صغيرة، أو بينهما مسيرة أربعة أشهر، أو محبوسا لا يقدر عليها، فقال في مدة الإيلاء‏:‏ فئت إليها سقط الإيلاء إن استمر العذر من وقت الحلف إلى آخر المدة‏)‏ روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه‏.‏ اعلم أن الفيء عبارة عن الرجوع، يقال‏:‏ فاء الظل‏:‏ إذا رجع، ولما قصد المولى باليمين منع حقها من الوطء سمي الرجوع عنه فيئا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن فاؤوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏ أي رجعوا عن قصدهم، والفيء نوعان بالجماع والقول عند عدمه؛ فالفيء بالجماع يبطل الإيلاء في حق الطلاق والحنث جميعا، والفيء باللسان بدل عن الفيء بالجماع في إبطال الطلاق دون الحنث حتى لو قربها بعد ذلك لزمته الكفارة؛ والبدل إنما يعتبر حالة العجز عن الأصل فيعتبر لعجز عن الجماع مستداما من وقت الإيلاج إلى تمام المدة، حتى لو قدر على الجماع في بعض المدة ففيؤه الجماع لا غير، لأنه لما قدر عليه ولم يفعله فالتقصير جاء من قبله فلا يعتبر عاجزا، روي ذلك عن علي وابن عباس وابن مسعود وجماعة من التابعين رضي الله عنهم‏.‏ وصفة الفيء أن يقول‏:‏ فئت إليك أو رجعت إليك‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يقول‏:‏ اشهدوا أني قد فئت إلى امرأتي وأبطلت إيلاءها، وهذه الشهادة احتياطا احترازا عن التجاحد لا شرطا، وهذا لأنه أوحشها بالكلام بذكر المنع فيرضيها بالرجوع عنه حقيقة بالوطء، فإذا لم يقدر عليه يرضيها بغاية ما يقدر عليه وهو الوعد باللسان فيرتفع الظلم‏.‏ ‏(‏فإذا قدر على الجماع بعد ذلك في المدة لزمه الفيء بالجماع‏)‏ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالحلف؛ ولو آلى من امرأته وبينهما أقل من أربعة أشهر إلا أنه يمنعه السلطان أو العدو أو كان أحدهما محرما واستمر الإحرام أربعة أشهر لا يصح فيؤه إلا بالجماع لأنه قادر عليه‏.‏

وقال زفر‏:‏ في الإحرام فيؤه القول، لأن المنع من جهة الشرع وهو الحرمة فكان عذرا‏.‏ قلنا الحرمة حق الشرع، والوطء حقها، وحق العبد مقدم على حق الشرع بأمره‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن قال لامرأته‏:‏ أنت عليّ حرام فإن أراد الكذب صدق‏)‏ لأنه حقيقة كلامه، وقيل لا يصدق لأنه يمين ظاهرا ‏(‏وإن أراد الطلاق فواحدة بائنة‏)‏ لأنه من الكنايات‏.‏ ‏(‏وإن نوى الثلاث فثلاث‏)‏ وقد مر ‏(‏وإن أراد الظهار فظهار‏)‏ لأن في الظهار نوع حرمة وقد نواه بالمطلق فيصدق لأنه من باب المجاز‏.‏ وقال محمد‏:‏ لا يكون ظهارا لعدم التشبيه بالمحرمة ‏(‏وإن أراد التحريم أو لم يرد شيئا فهو إيلاء‏)‏ لأن تحريم الحلال يمين هذا هو الأصل وموضعه كتاب الأيمان، والمتأخرون من أصحابنا صرفوا لفظة التحريم إلى الطلاق حتى قالوا يقع بغيره نية، وألحقوه بالصريح لكثرة الاستعمال فيه والعرف‏.‏

باب الخلع

وهو في اللغة‏:‏ القلع والإزالة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاخلع نعليك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 12‏]‏ ومنه خلع القميص إذا أزاله عنه، وخلع الخلافة‏:‏ إذا تركها وأزال عنه كلفها وأحكامها‏.‏

وفي الشرع‏:‏ إزالة الزوجية بما تعطيه من المال، وهو في إزالة الزوجية بضم الخاء، وإزالة غيرها بفتحها، كما اختص إزالة قيد النكاح بالطلاق وفي غيره بالإطلاق‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهو أن تفتدي المرأة نفسها بمال ليخلعها به، فإذا فعلا لزمها المال ووقعت تطليقة بائنة‏)‏ والأصل في جوازه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ وإنما تقع تطليقة بائنة لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الخلع تطليقة بائنة‏)‏ ولأنه كناية فيقع به بائنا لما مر ولا يحتاج إلى نية، إما لدلالة الحال، أو لأنها ما رضيت ببذل المال إلا لتملّك نفسها وتخرج من نكاحه، وذلك بالبينونة وهو مذهب عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم؛ والخلع من جانبه تعليق الطلاق بقبولها فلا يصح رجوعه عنها، ولا يبطل بقيامه من المجلس ويصح مع غيبتها، فإذا بلغها كان لها خيار القبول في مجلس علمها، ويجوز تعليقه بالشرط والإضافة إلى الوقت كقوله‏:‏ إذا قدم فلان أو إذا جاء فلان فقد خالعتك على ألف يصح، والقبول إليها إذا قدم فلان أو جاء غد، والخلع من جانبها تمليك بعوض كالبيع فيصح رجوعها قبل قبوله ويبطل بقيامها من المجلس، ولا يتوقف حال غيبته، ولا يجوز التعليق منها بشرط ولا الإضافة إلى وقت؛ ولو خالعها بألف على أنه بالخيار ثلاثة أيام فالخيار باطل، وإن قال على أنها بالخيار فكذلك عندهما لأن الخلع طلاق ويمين ولا خيار فيهما‏.‏ وعند أبي حنيفة الخيار لها صحيح، فإن ردته في الثلاث بطل الخلع، لأن الخلع طلاق من جانبه تمليك من جانبها فيجوز الخيار لها دونه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويكره أن يأخذ منها شيئا إن كان هو الناشز‏)‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 20‏]‏ فحملناه على الكراهية عملا بالنص الأول، وقيل هي نهي وتوبيخ لا تحريم ‏(‏وإن كانت هي الناشزة كره له أن يأخذ أكثر مما أعطاها‏)‏ لما روي أن جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، وقيل حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فقالت‏:‏ يا رسول الله لا أنا ولا هو، فأرسل رسول الله إلى ثابت، فقال‏:‏ قد أعطيتها حديقة، فقال لها‏:‏ ‏(‏أتردين عليه حديقته وتملكين أمرك ‏؟‏‏)‏ فقالت‏:‏ نعم وزيادة، قال‏:‏ ‏(‏أما الزيادة فلا‏)‏، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏يا ثابت خذ منها ما أعطيتها ولا تزدد وخل سبيلها‏)‏، ففعل وأخذ الحديقة، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏)‏ وإن أخذ منها أكثر مما أعطاها حل له‏)‏ بمطلق الآية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وكذلك إن طلقها على مال فقبلت وقع الطلاق بائنا‏)‏ لما قلنا ‏(‏ويلزمها المال بالتزامها‏)‏ ولأنه ما رضي بالطلاق إلا ليسلم له المال المسمى، وقد ورد الشرع به فيلزمها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما صلح مهرا صلح بدلا في الخلع‏)‏ لأن البضع حال الدخول متقوّم دون حال الخروج، فإذا صالح بدلا للمتقوّم فلأن يصلح لغير المتقوّم أولى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا بطل البدل في الخلع كان بائنا، وفي الطلاق يكون رجعيا‏)‏ وذلك مثل أن يخالعها على خمر أو خنزير أو ميتة ونحوه؛ أما وقوع الطلاق فلأنه علّقه بقبولها وقد وجد‏.‏

وأما البينونة في الخلع فلأنه كناية، والرجعي في الطلاق لأنه صريح ولا يجب للزوج عليها شيء، لأن البضع لا قيمة له عند الخروج وهي ما سمت له مالا فيغتر به، ولأنه لا سبيل إلى المسمى للإسلام ولا إلى غيره لعدم الالتزام، بخلاف النكاح، لأن البضع متقوّم حالة الدخول، ومهر المثل كالمسمى شرعا، وبخلاف ما إذا خالعها على هذا الدنّ من الخلّ فإذا هو خمر لأنها سمت له مالا فاغتر به، وبخلاف العتق والكتابة على خمر حيث تجب قيمة العبد لأنه ملك متقوّم وما رضي بخروجه بغير عوض، ولا كذلك البضع حالة الخروج على ما بينا؛ ولو خلعها على عبد فإذا هو حر رجع بالمهر‏.‏ وعند أبي يوسف بقيمته لو كان عبدا؛ ولو خلعها على ثوب ولم يسم جنسه، أو على دابة فله المهر، وفي العبد الوسط كما في المهر، وكذا على ثوب هروي فطلع مرويا يرجع بهروي وسط، ولو خلعها على دراهم معينة فإذا هي ستوقة رجع بالجياد، ولا يرد بدل الخلع إلا بعيب فاحش كما في المهر؛ ولو خلعها بغير مال وقال لم أنو الطلاق صدق لأنه كناية، ولا يصدّق إذا كان على مال، لأن البدل لا يجب إلا بالبينونة‏.‏ ‏(‏وإن قالت‏:‏ خالعني على ما في يدي وليس في يدها شيء فلا شيء عليها‏)‏ وكذا لو قالت‏:‏ على ما في بيتي ولا شيء في بيتها لأنها لم تسم المال لم تغرّه ‏(‏ولو قالت‏:‏ على ما في يدي من مال، أو على ما في بيتي من متاع ولا شيء في يدها ولا متاع في بيتها ردت عليه مهرها‏)‏ والأصل في ذلك أنه متى أطمعته في مال متقوّم فلم يسلم له لفقده وعدمه رجع عليها بالمهر لأنها غرّته حيث أطمعته في مال، والمغرور يرجع على الغارّ بالمدل، فإذا فات المشروط المطمع فيه زال ملكه مجانا فيلزمها أداء المبدل وهو ملك البضع، وقد عجزت عن رده فيلزمه رد قيمته وهو المهر؛ ولو خالعها بما لها عليه من المهر ولم يبق لها عليه شيء من المهر لزمها رد المهر، وإن علم الزوج أن لا مهر لها وعليه ولا متاع لها في البيت لا يلزمها شيء؛ ولو قالت‏:‏ على ما في يدي من دراهم أو من الدراهم ولا شيء في يدها لزمها ثلاثة دراهم لأنها سمت الدراهم وأقل الجمع ثلاثة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو خلع ابنته الصغيرة على مالها لا يلزمها شيء‏)‏ لأنه لا نظر لها فيه، إذ البدل متقوّم والمبدل لا قيمة له على ما بينا ‏(‏وفي الكبيرة يتوقف على قبولها‏)‏ لأنه لا ولاية له عليها فصار كالفضولي ‏(‏ولو ضمن المال لزمه في المسألتين‏)‏ لأن شرط بدل الخلع على الأجنبي جائز فعلى الأب والأم أولى؛ ولو اختلعت الصغيرة نفسها على صداقها وقع الطلاق لأنه علقه بقبولها، ولا يسقط الصداق لأنها ليست من أهل الالتزام لما فيه من الضر، ولو خلعها أبوها على صداقها لا يسقط، ثم إن قبلت الصغيرة الخلع وقع الطلاق، وإن قبل الأب فيه روايتان‏:‏ في رواية لا يقع لأنه كالأجنبي إذا لم يضف البدل إلى نفسه، ويحتمل أن الخلع مضرة بها فلا يقوم قبولها‏.‏ وفي رواية يقع لأنه نفع محض بالخلاص عن عهدته فصار كقبول الهبة، ولو ضمن الأب الصداق رجع الزوج عليه وإلا فلا، وكذلك الأجنبي لأنه متى ضمن البدل فالخلع يتم بقبوله لا بقبولها لأنه يجب البدل عليه بالتزامه من ملكه ولا يجب عليه إلا إذا وقع العقد معه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو قالت‏:‏ طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة فعليها ثلث الألف، ولو قالت‏:‏ على ألف فطلقها واحدة فلا شيء عليها وهي رجعية‏)‏ وقالا‏:‏ هما سواء لأن على كالباء في المعاوضات، لأن قوله احمل هذا بدرهم وعلى درهم سواء‏.‏ ولأبي حنيفة أن حرف الباء للمعاوضة وهي تصحب الأعواض فينقسم العوض على المعوض، وإذا وجب المال كانت بائنة، أما على فإنها للشرط قال تعالى‏:‏ ‏{‏يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏ أي بهذا الشرط، وكذا لو قال‏:‏ أنت طالق على أن تدخلي الدار كان شرطا، والمشروط لا ينقسم على أجزاء الشرط، لأن وجوب الألف صار معلقا بالتطليق ثلاثا فلا يلزم قبله، لأن المعلق عدم قبل وجود الشرط، وإذا لم يجب المال فقد طلقها بصريح الطلاق فكانت رجعية‏.‏ ‏(‏ولو قال لها‏:‏ طلقي نفسك ثلاثا بألف أو على ألف فطلقت واحدة لم يقع شيء‏)‏ لأنه ما رضي بالبينونة إلا ليسلم له جميع الألف بخلاف المسألة الأولى لأنها لما رضيت بالبينونة بالألف فلأن ترضى ببعضها كان أولى ‏(‏ولو قال لها‏:‏ أنت طالق وعليك ألف فقبلت طلقت ولا شيء عليها‏)‏ وكذلك إن لم تقبل، وقالا‏:‏ إن قبلت فعليها الألف، وإلا لا شيء عليها، لأن هذا الكلام يستعمل للمعاوضة، يقال‏:‏ اعمل هذا ولك درهم كقوله بدرهم، وله أن قوله وعليك ألف لا ارتباط له بما قبله، إذ الأصل ذلك ولا دلالة على الارتباط، لأن الطلاق يوجد بدون المال، بخلاف البيع والإجارة فإنهما لا ينفكان عن وجوب المال؛ ولو قال لعبده‏:‏ أنت حر وعليك ألف فعلى الخلاف؛ ولو قالت له‏:‏ اخلعني على ألف فقال مجيبا لها‏:‏ أنت طالق كان كقوله خلعتك؛ ولو قال‏:‏ بعت منك طلاقك بمهرك، فقالت‏:‏ طلقت نفسي بانت منه بمهرها بمنزلة قولها اشتريت؛ ولو قال‏:‏ بعت منك تطليقة، فقالت اشتريت تقع واحدة رجعية مجانا لأنه صريح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمبارأة كالخلع يسقطان كل حق لكل واحد من الزوجين على الآخر مما يتعلق بالنكاح حتى لو كان قبل الدخول وقد قبضت المهر لا يرجع عليها بشيء‏)‏ ولو لم تقبض شيئا لا ترجع عليه بشيء؛ ولو خالعها على مال آخر لزمها وسقط الصداق‏.‏ وقال محمد‏:‏ لا يسقط فيهما إلا ما سمياه وأبو يوسف معه في الخلع ومع شيخه في المبارأة‏.‏ لمحمد أنه تعذر العمل بحقيقة اللفظين على ما يأتي فجعلا كناية عن الطلاق على مال فلا يجب إلا ما سمياه‏.‏ ولأبي يوسف أن المبارأة مفاعلة من البراءة وقضيتها البراءة من الجانبين مطلقا، إلا أنا اقتصرنا على ما وقعت المبارأة لأجله وهو حقوق النكاح‏.‏

أما الخلع فيقتضي الانخلاع، وقد حصل الانخلاع من النكاح فلا حاجة إلى حقوقه‏.‏ ولأبي حنيفة أن الخلع عبارة عن الانخلاع والانتزاع على ما مر في أول الباب، والمبارأة كما قال أبو يوسف تقتضي الانخلاع والبراءة من الجانبين‏.‏ ونفس النكاح لا يحتمل الانخلاع والبراءة، وحقوقه تقبل ذلك فتقع البراءة عنها ليحصل ما هو المقصود من الخلع وهو انقطاع المشاجرة بين الزوجين، أو نقول يعمل بإطلاقهما في النكاح وأحكامه وحقوقه بدلالة العوض، ولو وقع الخلع بلفظ البيع والشراء فالأصح أنه يوجب البراءة عند أبي حنيفة ولو اختلعا ولم يذكرا المهر ولا بدلا آخر فالصحيح أنه يسقط ما بقي من المهر وما قبضته فهو لها، وإن ذكرا نفقة العدة سقطت وإلا فلا لأنها لم تجب بعد، ولا تقع البراءة عن نفقة الولد وهي مؤونة الرضاع إلا بالشرط لأنها لم تجب لها، فإن شرط البراءة منها في الخلع ووقتا بأن قال إلى سنة أو سنتين سقطت، فإن مات الولد قبل تمام المدة رجع عليها بما بقي من أجر مثل الرضاع إلى تمام المدة، والحيلة لعدم الرجوع أن يقول‏:‏ خالعتك على كذا، أو على نفقة الولد إلى سنتين، فإن مات في بعض المدة فلا رجوع لي عليك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويعتبر خلع المريضة من الثلث‏)‏ لأنه لا قيمة للبضع عند الخروج، وليس من الحوائج الأصلية فكان كالوصية، وهذا إذا ماتت بعد العدة أو قبل الدخول؛ فأما إذا ماتت وهي في العدة فللزوج الأقل من الميراث، ومن المهر إن كان يخرج من الثلث، وإن لم يخرج فله الأقل من ميراثها ومن الثلث‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في خلع الرقيق‏]‏

إذا اختلعت المكاتبة لزمها المال بعد العتق لأنه تبرع، وسواء كان بإذن المولى أو بغير إذنه لأنها محجورة عن التبرعات؛ ولو اختلعت الأمة وأم الولد بإذن المولى لزمهما للحال وإذا خلع الأمة مولاها من زوجها الحر على رقبتها صح الخلع بغير شيء؛ ولو كان الزوج مكاتبا أو عبدا أو مدبرا جاز الخلع وصارت أمة للسيد، والفرق أنها تصير مملوكة للمولى فلا ينفسخ النكاح، وفي الحر لو صارت مملوكة له بطل النكاح فيبطل الخلع‏.‏ أمتان تحت حر خلعهما المولى على رقبة إحداهما بعينها بطل الخلع فيها وصح في الأخرى ويقسم الثمن على مهرهما، فما أصاب مهر التي صح خلعها فهو للزوج من رقبة الأخرى، ولو خلع كل واحدة منهما على قربة الأخرى وقع الطلاقان بائنين بغير شيء، لأنه قارن وقوع الطلاق على كل واحدة وقوع الملك في رقبتها فتعذر إيجاب العوض، ولو طلق كل واحدة على رقبة صاحبتها يقع رجعيا‏.‏

باب الظهار

وهو في اللغة مشتق من لفظ الظهر، يقال‏:‏ ظاهر يظاهر ظهارا، وأصله قول الرجل لامرأته‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي، ثم انتقل إلى غيره من الأعضاء، وإلى غيرها من المحرمات ‏(‏وهو أن يشبه امرأته أو عضوا يعبر به عن بدنها‏)‏ كالرأس والوجه ‏(‏أو جزءا شائعا منها‏)‏ كالثلث والربع ‏(‏بعضو لا يحل النظر إليه‏)‏ كالظهر والفخذ والبطن والفرج، لأن الكل في معنى الظهر في الحرمة ‏(‏من أعضاء من لا يحل له نكاحها على التأبيد‏)‏ كأمه وبنته وجدته وعمته وخالته وأخته وغيرهن من المحرمات على التأبيد، لأن الكل كالأم في تأبيد الحرمة‏.‏ ‏(‏وحكمه‏:‏ حرمة الجماع ودواعيه حتى يكفر‏)‏ تحرزا عن الوقوع فيه كما في الإحرام، بخلاف الحيض فإنه يكثر وقوعه فيحرج ولا كذلك الظهار، وكان في الجاهلية طلاقا فجعله الشرع موجبا حرمة متناهية بالكفارة‏.‏ والأصل فيه حديث خولة بنت ثعلبة، وقيل بنت خويلد كانت تحت أوس بن الصامت وكانا من الأنصار فأرادها فأبت عليه، فقال‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي فكان أول ظهار في الإسلام، ثم ندم وكان الظهار طلاقا في الجاهلية، فقال‏:‏ ما أظنك إلا قد حرمت عليّ، فقالت‏:‏ والله ما ذاك بطلاق، فأتت رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فقالت‏:‏ إن أوسا تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبرت سني ظاهر مني وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به ‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ حرمت عليه ‏)‏ فجعلت تراجع رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ وإذا قال لها‏:‏ ‏(‏ حرمت عليه ‏)‏ هتفت وقالت‏:‏ أشكوا إلى الله فاقتي وشدة حالي، وأن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وجعلت تقول‏:‏ اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي كما كان يتغشاه، فلما سرّي عنه قال‏:‏ ‏(‏ يا خولة قد أنزل الله فيك وفي أوس قرآنا وتلا ‏{‏قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها‏}‏ ‏[‏ المجادلة‏:‏ 1 ‏]‏ الآيات، والظهار جائز ممن يجوز طلاقه من المسلمين لأن كل واحد منهما يوجب حرمة الزوجة، ولا يكون من المطلقة بائنا لأنها حرام عليه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن جامع قبل التكفير استغفر الله تعالى‏)‏ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا ظاهر من امرأته فرأى خلخالها في القمر فوقع عليها، ثم جاء إلى النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فذكر ذلك، فقال له‏:‏ ‏(‏ استغفر الله تعالى ولا تعد حتى تكفر ‏)‏، ولأنه فعل فعلا محرما والأفعال المحرمة توجب الاستغفار ولا شيء عليه غيره، لأنه لو كان لبينه عليه الصلاة والسلام، ولا يحل قربانها بعد زوج آخر ولا بملك اليمين حتى يكفر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا‏}‏ ‏[‏ المجادلة‏:‏ 3 ‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والعود الذي تجب به الكفارة أن يعزم على وطئها‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ ولا تعد حتى تكفر ‏)‏ نهى عن الوطء إلى غاية التكفير فتنتهي حرمة الوطء بالتكفير ‏(‏وينبغي لها أن تمنع نفسها منه لأنه حرام وتطالبه بالكفارة ويجبره القاضي عليها‏)‏ إيفاء لحقها، وكل ما لا يصدقه القاضي فيه لا يسع المرأة أن تصدقه فيه، فلو قال أردت الإخبار عما مضى بكذب لم يصدق قضاء وصدق ديانة؛ ولو قال‏:‏ أنا منك مظاهر، أو ظاهرت منك يصير مظاهرا لأنه صريح فيه؛ ولو شبهها بامرأة زنى بها أبوه أو ابنه أو بابنة مزنيته فهو مظاهر عند أبي يوسف خلافا لمحمد بناء على أن القاضي إذا قضى بجواز نكاحها ينفذ عند محمد خلافا لأبي يوسف‏.‏ وسئل محمد عن المرأة تقول لزوجها‏:‏ أنت علي كظهر أمي ‏؟‏ قال‏:‏ ليس بشيء، لأن المرأة لا تملك التحريم كالطلاق‏.‏ وسئل أبو يوسف فقال‏:‏ عليها الكفارة، لأن الظهار تحريم يرتفع بالكفارة وهي من أهل الكفارة فصح أن توجبها على نفسها‏.‏ وسئل الحسن بن زياد فقال‏:‏ هما شيخا الفقه أخطئا، عليها كفارة يمين، لأن الظهار يقتضي التحريم فكأنها قالت لزوجها‏:‏ أنت عليّ حرام، فيجب عليها كفارة يمين إذا وطئها‏.‏ ‏(‏ولو قال‏:‏ أنت عليّ مثل أمي أو كأمي‏)‏ فهو كناية يرجع إلى نيته ‏(‏فإن أراد الكرامة صدق‏)‏ لأن ذلك من محتملات كلامه وهو مشهور بين الناس ‏(‏وإن أراد الظهار فظهار‏)‏ لأنه شبهها بجميعها، وفي ذلك تشبيه بالعضو المحرم فيصح عند نيته ‏(‏وإن أراد الطلاق فواحدة بائنة‏)‏ ويصير تشبيها لها في الحرمة كأنه قال‏:‏ أنت عليّ حرام ‏(‏وإن لم يكن له نية فليس بشيء‏)‏ لأنه كناية يحتمل وجوها فلا يتعين أحدهما إلا بمرجع‏.‏ وقال محمد‏:‏ هو ظهار لأنه تشبيه حقيقة والتشبيه بالعضو ظهار، فالتشبيه بالكل أولى‏.‏ وعن أبي يوسف إن كان في حالة الغضب فهو ظهار، وإن عنى به التحريم فهو إيلاء إثباتا لأدنى الحرمتين‏.‏ وعند محمد ظهار، وقيل ظهار بالإجماع‏.‏ وإن نوى الكذب قال محمد في نوادر هشام‏:‏ يدين إلا أن يكون في حالة الغضب فهو يمين؛ وإن قال‏:‏ أنت عليّ حرام كأمي ونوى ظهارا فظهار للتشبيه، وإن نوى طلاقا فطلاق للتحريم، وإن نوى التحريم فظهار، وإن لم يكن له نية فإيلاء‏.‏ وعند محمد ظهار وقد مر وجهها‏.‏ ‏(‏ولو قال لنسائه‏:‏ أنتن علي كظهر أمي فعليه لكل واحدة كفارة‏)‏ لأنه يصير مظاهرا من كل واحدة منهن بإضافة الظهار إليهن، كما إذا قال‏:‏ أنتن طوالق تطلق كل واحدة منهن، وإذا كان مظاهرا من كل واحدة منهن تثبت الحرمة في كل واحدة والكفارة لإنهاء الحرمة فتتعدد بتعدد الحرمة ‏(‏وإن ظاهر منها مرارا في مجلس واحد أو في مجالس فعليه لكل ظهار كفارة‏)‏ كما في تكرار اليمين‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة‏:‏ إذا قال لامرأته‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي مائة مرة وجبت عليه مائة كفارة وهو حالف مائة مرة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في كفارة الظهار‏]‏

‏(‏والكفارة عتق رقبة‏)‏ قبل المسيس للنص ‏(‏يجزئ فيها مطلق الرقبة السليمة‏)‏ فينطلق على المسلم والكافر والذكر والأنثى والصغير والكبير عملا بالإطلاق، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتحرير رقبة‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 226 ‏]‏ والرقبة عبارة عن الذات المرقوقة المملوكة من كل وجه، وعند الإطلاق ينصرف إلى السليمة، فمن قيدها بوصف زائد فقد زاد على النص فيرد عليه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجزئ المدبر وأم الولد‏)‏ لأن الرق فيهم ناقص لاستحقاقهم العتق بجهة أخرى، ‏(‏و‏)‏ لا ‏(‏المكاتب الذي أدى بعض كتابته‏)‏ لأنه يشبه العتق ببدل، ويجوز المكاتب

الذي لم يؤد شيئا، لأن الرق قائم به، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ‏)‏ وما ذكرناه من المعنى فيمن أدى البعض منتف، على أنه روي عن أبي حنيفة أنه يجوز من أدى البعض أيضا لأنه عبد بالحديث حتى لو فسخت الكتابة عاد رقيقا، بخلاف أم الولد والمدبر فإن ذلك لا يفسخ أصلا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا مقطوع اليدين أو إبهاميهما أو الرجلين، ولا الأعمى ولا الأصم ولا الأخرس ولا المجنون المطبق‏)‏ لأن جنس المنفعة تفوت في هؤلاء، وهو البطش والسعي والسمع والبصر والانتفاع بالجوارح بالعقل والمجنون فائت المنفعة، وبطش اليدين بالإبهامين فبغوتهما تفوت جنس المنفعة وأنه مانع؛ لأن قيام الرقبة قيام المنفعة وإذا فات جنس المنفعة صارت الرقبة هالكة من وجه فكانت ناقصة فلا يتناولها الاسم، أما إذا اختلت المنفعة فليس بمانع، لأن العيب القليل ليس بمانع لتعذر الاحتراز عنه، وذلك كالأعور ومقطوع إحدى اليدين أو إحدى الرجلين من خلاف، ولا يجوز إذا قطعا من جانب واحد لفوات جنس منفعة الشيء، ولا يجوز المعتوه والمفلوج اليابس الشق لما بينا، وثلاثة أصابع من اليد لها حكم الكل، ويجوز عتق الخصي والمجبوب لأن ذلك يزيد القيمة لا ينقصها، ويجوز مقطوع الأذنين لأنه لا ضرر فيه، ويجوز مقطوع الشفتين إن كان يقدر على الأكل وإلا فلا ‏(‏ولا‏)‏ يجوز ‏(‏معتق البعض‏)‏ لأنه ليس برقبة كاملة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن اشترى أباه أو ابنه ينوي الكفارة أجزأه‏)‏ لأن شراء القريب إعتاق، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ لن يجزئ ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ‏)‏ أخبر عليه الصلاة والسلام أن الابن قادر على إعتاق الأب فيكون قادرا تصديقا له فيما أخبر، ولا يقدر على إعتاقه قبل الشراء لعدم الملك ولا بعد الشراء لأنه يعتق عليه بالشراء، فيكون نفس الشراء إعتاقا، فإذا نوى بالشراء الكفارة يصير إعتاقا عن الكفارة فيصح ويجزئه ‏(‏وإن أعتق نصف عبده ثم جامعها ثم أعتق باقيه لم يجزه‏)‏ عنده‏.‏ وعندهما يجزئه بناء على تجزي الإعتاق، فعندهما لما أعتق نصفه كان إعتاقا للجميع، وعنده لا فقد أعتق النصف قبل المسيس والنصف بعده، والشرط أن يكون الإعتاق قبل المسيس فلا يجزئه فيستأنف عتق رقبة أخرى‏.‏ ‏(‏وإن لم يجامع بين الإعتاقين أجزأه‏)‏ بالإجماع، أما عندهما فظاهر، وأما عنده فلأنه أعتقه بكلامين، وما حصل فيه من النقص حصل بسبب الإعتاق للكفارة وأنه غير مانع، كما إذا أصابت السكين عين شاة الأضحية وقد أضجعها للذبح؛ وعلى هذا لو أعتق نصف عبد مشترك لا يجزئه موسرا كان أو معسرا بناء على ما مر، وعندهما إن كان موسرا أجزأه، لأنه يملك نصيب شريكه بالضمان وكان معتقا للكل، وإن كان معسرا لا يجزئه، لأن السعاية وجبت للشريك في نصيبه فلم يوجد منه عتق الجميع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والعبد لا يجزئه في الظهار إلا الصوم‏)‏ لأنه عاجز عن الإعتاق والإطعام لأنه لا يملك شيئا، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ لا يملك العبد إلا الطلاق ‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن لم يجد‏)‏ المظاهر ‏(‏ما يعتق صام شهرين متتابعين‏)‏ لقوله تعالى‏:‏‏)‏ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا‏}‏ ‏[‏ المجادلة‏:‏ 4 ‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ليس فيهما رمضان ويوما العيد وأيام التشريق‏)‏ أما رمضان فلأنه يقع عن الفرض لتعينه على ما مر في الصوم فلا يقع عن غيره؛ وأما الباقي فلأن الصوم فيها حرام فكان ناقصا فلا يتأدى به الواجب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن جامعها في الشهرين ليلا أو نهارا عامدا أو ناسيا بعذر أو بغير عذر استقبل‏)‏ لقوله تعالى‏:‏‏)‏ من قبل أن يتماسا ‏(‏ وقال أبو يوسف‏:‏ إن جامع ليلا عامدا أو نهارا ناسيا لم يستأنف لأن ذلك لا يمنع التتابع حتى لا يفسد به الصوم‏.‏ وجوابه أن النص شرطه كونه قبل المسيس وأنه ينعدم المسيس فيستأنف، ولو حاضت المرأة في كفارة الصوم لا تستقبل، وإن أفطرت لمرض استقبلت، ولو حاضت في كفارة اليمن استقبلت، لأن الحيض يتكرر في كل شهر ولا كذلك المرض‏.‏ وعن محمد لو صامت شهرا ثم حاضت ثم أيست استقبلت‏.‏ وعن أبي يوسف‏:‏ لو حبلت في الشهر الثاني بنت، ومن له دين ليس له غيره ولا يقدر على استخلاصه كفر بالصوم؛ ولو حنث موسرا ثم أعسر أو بالعكس فالمعتبر حالة التكفير، ولو أيسر في خلال الصوم أعتق كالمتيمم إذا وجد الماء في صلاته‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن لم يستطع الصيام أطعم ستين مسكينا‏)‏ لقوله تعالى‏:‏‏)‏ فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا‏}‏ ‏[‏ المجادلة‏:‏ 4 ‏]‏ ‏(‏ويطعم كما ذكرنا في صدقة الفطر‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث سهل بن صخر أو أوس بن الصامت ‏(‏ لكل مسكين نصف صاع من بر ‏)‏ ولأنه لحاجة المسكين في اليوم فاعتبرت بصدقة الفطر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏أو قيمة ذلك‏)‏ لما مر في دفع القيم في الزكاة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن غدّاهم وعشّاهم جاز‏)‏ قال تعالى‏:‏‏)‏ فإطعام ستين مسكينا ‏(‏وهو التمكين من الطعم ‏(‏ولا بد من شبعهم في الأكلتين‏)‏ اعتبارا للعادة ‏(‏ولا بد من الإدام في خبز الشعير دون الحنطة‏)‏ لأنه لا يتمكن من الشبع في خبز الشعير دون الإدام فإنه قلما ينساغ دونه، ولا كذلك خبز الحنطة‏.‏ وعن أبي حنيفة رحمه الله‏:‏ لو غدّاهم وعشّاهم خبزا وإداما أو خبزا بغير إدام أو خبز الشعير أو سويقا أو تمرا جاز، ولو غدّى ستين وعشى ستين غيرهم لم يجزه إلا أن يعيد على ستين منهم غداء أو عشاء؛ ويجوز غداءان أو عشاءان أو عشاء وسحور، وكذا لو غدّاهم يوما وعشّاهم يوما آخر لوجود أكلتين مشبعتين، ولو عشّاهم في رمضان لكل مسكين ليلتين أجزأه، والمستحب غداء وعشاء؛ ولو أطعم كل مسكين مدّا فعليه أن يعطيه مدّا آخر، ولا يجوز أن يعطيه غيرهم لأن الواجب شيئان‏:‏ مراعاة عدد المساكين، والمقدار في الوظيفة لكل المسكين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو أطعم مسكينا‏)‏ واحدا ‏(‏ستين يوما أجزأه‏)‏ لأن المعتبر دفع حاجة المسكين وأنها تتجدد بتجدد اليوم ‏(‏وإن أعطاه في يوم واحد عن الكل أجزأه عن يوم واحد‏)‏ لاندفاع الحاجة بالمرة الأولى، هذا لا خلاف فيه في الإباحة، فأما التمليك منه في يوم واحد في دفعات قيل لا يجزئه، وقيل يجزئه لأن الحاجة إلى التمليك تتجدد في اليوم مرات؛ ولو دفع الكل إليه مرة واحدة لا يجوز لأن التفريق واجب بالنص‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن جامعها في خلال الإطعام لم يستأنف‏)‏ لأن النص لم يشرط في الإطعام قبل المسيس، إلا أنا أوجبناه قبل المسيس لاحتمال القدرة على الإعتاق أو الصوم فيقعان بعد المسيس والمنع لمنع في غيره لا ينافي المشروعية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن أعتق رقبتين، أو صام أربعة أشهر، أو أطعم مائة وعشرين مسكينا عن كفارتي ظهار أجزأه عنهما وإن لم يعين‏)‏ لأن الجنس متحد فلا حاجة إلى التعيين‏.‏

وقال زفر رحمه الله‏:‏ لا يجوز عن واحدة منهما ما لم يعتق عن كل واحدة واحدة لأنه لما أعتق عنهما انقسم كل إعتاق عليهما فيقع العتق أشقاصا عن كل واحدة، فلا يجوز كما إذا اختلف الجنس‏.‏ ولنا أن الواجب تكميل العدد دون التعيين، إذ التعيين لا يفيد في الجنس الواحد على ما عرف، بخلاف اختلاف الجنس، لأن التعيين مفيد فيه فيشترط ‏(‏وإن أطعم ستين مسكينا كل مسكين صاعا من بر عن كفارتين لم يجزه إلا عن واحدة‏)‏ وقال محمد رحمه الله‏:‏ عنهما، وإن أطعم ذلك عن ظهار وإفطار أجزأه عنهما بالإجماع، وعليه قياس محمد رحمه الله، وهذا لأن بالمؤدى وفاء بهما، والمصروف إليه محل لهما فيقع عنهما وصار كما إذا فرق الدفع‏.‏ ولهما أن النية تعتبر في الجنسين لا في جنس واحد، وإذا لغت النية في الجنس الواحد بقي أصل النية فيجزي عن الواحدة كما إذا قال عن كفارة ظهار ‏(‏وإن أعتق وصام عن كفارتي ظهار فله أن يجعل ذلك عن أيهما شاء‏)‏ لأن النية معتبرة عند اختلاف الجنس‏.‏

باب اللعان

وهو مصدر لاعن يلاعن ملاعنة كقاتل يقاتل مقاتلة، والملاعنة مفاعلة من اللعن، ولا يكون هذا الوزن إلا بين اثنين، إلا ما شذ كراهقت الحلم وطارقت النعل وعاقبت اللص ونحوه، وهو لفظ عام‏.‏

وفي الشرع هو مختص بملاعنة تجري بين الزوجين بسبب مخصوص بصفة مخصوصة على ما يأتيك إن شاء الله تعالى، وهو شهادات مؤكدات بالأيمان موثقة باللعن والغضب من الله تعالى كما نطق به الكتاب، وقد كان موجب القذف في الحد في الأجنبية والزوجة بقوله تعالى‏:‏‏)‏ والذين يرمون المحصنات‏}‏ ‏[‏ النور‏:‏ 4 ‏]‏ الآية فنسخ في الزوجات إلى اللعان بقوله تعالى‏:‏‏)‏ والذين يرمون أزواجهم‏}‏ ‏[‏ النور‏:‏ 6 ‏]‏ الآية، وسبب ذلك ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن هلال بن أمية قذف امرأته خولة بشريك ابن السمحاء عند رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏، فقال‏:‏ رأيت بعيني وسمعت بأذني، فاشتد ذلك على رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏، فقال سعد بن عبادة‏:‏ الآن يضرب هلال وترد شهادته، ثم قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ البينة أو حد في ظهرك ‏)‏، فقال‏:‏ يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ يقول‏:‏ ‏(‏ البينة أو حد في ظهرك ‏)‏، فقال هلال‏:‏ والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل‏)‏ والذين يرمون أزواجهم ‏(‏إلى قوله‏:‏‏)‏ إن كان من الصادقين‏}‏ ‏[‏ النور‏:‏ 6 ‏]‏ فلاعن عليه الصلاة والسلام بينهما، وقال عند ذكر اللعنة والغضب‏:‏ آمين، وقال القوم‏:‏ آمين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجب بقذف الزوجة بالزنا‏)‏ لما تلونا ‏(‏أو بنفي الولد‏)‏ لأنه في معناه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إذا كانا من أهل الشهادة وهي ممن يحد قاذفها وطالبته بذلك‏)‏ لأن الركن فيه الشهادة‏.‏ قال تعالى‏:‏‏)‏ ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم‏}‏ ‏[‏ النور‏:‏ 6 ‏]‏‏.‏ والشهادة لا تكون معتبرة إلا إذا صدرت من أهلها، فوجوب الشهادة عليهما اشتراط كونهما من أهل الشهادة، ولا بد من أن تكون ممن يحد قاذفها، لأن اللعان في حقها كحد القذف لما أن اللعان عقوبة، فإن كان كاذبا التحق به كالحد حتى لا نقبل شهادته بعد اللعان أبدا، وهو في حقها كحد الزنا لأن الغضب في حقها من الله تعالى عقوبة شديدة يلتحق بها إن كانت كاذبة فقام مقام حد الزنا، ولهذا لا يثبت اللعان بالشهادة على الشهادة، ولا بكتاب القاضي، ولا بشهادة النساء كالحدود، ولا بد من طلبها لها لأن الحق كما في حد القذف‏.‏ وشرط اللعان قيام الزوجية بينهما بنكاح صحيح دون الفاسد، لأن مطلق الزوجية ينصرف إلى الصحيح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن امتنع منه حبس حتى يلاعن‏)‏ لأنه حد وجب عليه فيحبس فيه لقدرته عليه ‏(‏أو يكذب نفسه فيحد‏)‏ لأنه إذا أكذب نفسه سقط اللعان، وإذا سقط اللعان وجب عليه الحد، لأن القذف لا يخلو عن موجب، فإذا سقط اللعان صرنا إلى حد القذف، إذ هو الأصل ‏(‏فإذا لاعن وجب عليها اللعان‏)‏ بالنص ‏(‏وتحبس حتى تلاعن‏)‏ لما بينا ‏(‏أو تصدقه‏)‏ فلا حاجة إلى اللعان ولا يجب عليها حد الزنا، لأن من شرطه الأقارير الأربعة عندنا على ما يأتي بيانه، ولهذا قال الشافعي رحمه الله تحد لأن الزاني يحد عنده بالإقرار مرة واحدة، ويبتدى في اللعان بالزوج لأنه هو المدعي، ولأنه عليه الصلاة والسلام بدأ بالزوج، فلما التعنا فرق بينهما، فإن التعنت المرأة أولا ثم الزوج أعادت ليكون على الترتيب المشروع، فإن فرق بينهما قبل الإعادة جاز لأن المقصود تلاعنهما وقد وجد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا لم يكن الزوج من أهل الشهادة‏)‏ بأن كان عبدا أو محدودا في قذف أو كافرا ‏(‏فعليه الحد‏)‏ لأن اللعان امتنع لمعنى من جهته فيرجع إلى الموجب الأصلي ‏(‏وإن كان من أهل الشهادة وهي ممن لا يحد قاذفها‏)‏ بأن كانت أمة أو كافرة أو محدودة في قذف أو صبية أو مجنونة أو زانية ‏(‏فلا حد عليه ولا لعان‏)‏ لأن المانع من جهتها فصار كما إذا صدقته ‏(‏ويعزر‏)‏ لأنه آذاها وألحق الشين بها ولم يجب الحد فيجب التعزير حسما لهذا الباب، ولو كانا محدودين في قذف حد لأن اللعان امتنع من جهته لأنه يبدأ به وهو ليس من أهل الشهادة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ أربعة لا لعان بينهم وبين نسائهم‏:‏ اليهودية والنصرانية تحت المسلم، والمملوكة تحت الحر، والحرة تحت المملوك ‏)‏ وفي رواية ‏(‏ والمسلم تحته كافرة، والكافر تحته مسلمة ‏)‏ وصورته‏:‏ إذا كانا كافرين فأسلمت قفذفها قبل عرض الإسلام عليه‏.‏ ‏(‏وصفة اللعان أن يبتدئ القاضي بالزوج فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة‏:‏ أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا، ويقول في الخامسة‏:‏ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتك به من الزنا؛ وإن كان القذف بولد يقول‏:‏ فيما رميتك به من نفي الولد، وإن كان بهما يقول‏:‏ فيما رميتك به من الزنا ومن نفي الولد‏)‏ لأنه المقصود باليمين ‏(‏ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة‏:‏ أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتقول في الخامسة‏:‏ غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا، وفي نفي الولد تذكرة‏)‏ كما تقدم‏.‏ ‏(‏فإذا التعنا فرق الحاكم بينهما‏)‏ ولا تقع الفرقة قبل الحكم حتى لو مات أحدهما قبل التفريق ورثه الآخر‏.‏

وقال زفر‏:‏ تقع الفرقة بينهما بالتلاعن لوقوع الحرمة المؤبدة بينهما بالنص وهو المقصود من الفرقة‏.‏ ولنا ما روي ‏(‏ أن النبي عليه الصلاة والسلام لما لاعن بينهما قال الزوج‏:‏ كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثا ‏)‏‏.‏ قال الراوي‏:‏ ففارقها قبل أن يأمره رسول الله بفراقها، فأمضى عليه ذلك فصار سنة المتلاعنين، ولو وقعت الفرقة بتلاعنهما لم يقع الطلاق ولما أمضاه عليه الصلاة والسلام ولبين له بطلان اعتقاده في وقوع الطلاق، ولأن، حرمة الاستمتاع تثبت باللعان، لأن اللعن والغضب نزل بأحدهما بيقين وأثره بطلان النعمة، وحل الاستمتاع نعمة والزوجية نعمة، وحل الاستمتاع أقلهما فيحرم، وهذه الحرمة جاءت من قبله لأنها بسبب قذفه فقد فوّت عليها الإمساك بالمعروف فيجب عليه التسريح بالإحسان، فإذا لم يشرحها وهو قادر عليه كان ظالما لها فينوب القاضي منابه دفعا للظلم‏.‏ ‏(‏فإذا فرق بينهما كانت تطليقة بائنة‏)‏ لأنه كفعل الزوج كما في الجب والعنة‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ هو تحريم مؤبد، وثمرته إذا أكذب نفسه حده القاضي وعاد خاطبا، وعنده لا لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ المتلاعنان لا يجتمعان أبدا ‏)‏ ولنا أنه إذا أكذب نفسه لم يصيرا متلاعنين ولا يبقى حكمه، ولهذا وجب عليه الحد بالإكذاب، ولأن اللعان شهادة وهي تبطل بتكذيب الشاهد نفسه فلم يبقيا متلاعنين لا حقيقة ولا حكما فلم يتناولهما النص‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن كان القذف بولد نفى القاضي نسبه وألحقه بأمه‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام نفى ولد امرأة هلال وألحقه بأمه‏.‏ وإذا قذف الأعمى امرأته العمياء أو الفاسق امرأته يجب اللعان لأنهما من أهل الشهادة؛ ولو كان أحدهما أخرس لا حد ولا لعان لأنه ليس من أهل الشهادة؛ ولو خرس أحدهما أو ارتد أو أكذب نفسه أو قذف أحدهما إنسانا فحد للقذف، أو وطئت حراما بعد اللعان قبل التفريق بطل اللعان ولا حد ولا تفريق، لأن ما منع الوجوب مع الإمضاء لوجود الشبهة؛ ولو وطئت بشبهة قفذفها زوجها لا لعان عليه ولا حد على قاذفها‏.‏ وعن أبي يوسف أنه رجع وقال‏:‏ يجب اللعان والحد لأنه وطء يجب فيه المهر ويثبت النسب‏.‏ وجه الظاهر أنه وطء في غير ملك فأشبه الزنا وصار شبهة في إسقاط الحد عن القاذف؛ ولو قذفها ثم وطئت حراما لا لعان بينهما لما بينا، ولو لم يفرق الحاكم بينهما حتى عزل أو مات فالحاكم الثاني يستقبل اللعان بينهما‏.‏ وقال محمد‏:‏ لا يستقبل لأن اللعان قائم مقام الحد فصار كإقامة الحد حقيقة، وذلك لا يؤثر فيه عزل الحاكم وموته‏.‏ ولهما أن تمام الإمضاء في التفريق والإنهاء فلا يتناهى قبله فيجب الاستقبال؛ ولو طلقها بعد القذف ثلاثا أو بائنا فلا حد ولا لعان، ولو كان رجعيا لا عن لقيام الزوجية؛ ولو تزوجها بعد الطلاق البائن فلا لعان ولا حد بذلك القذف‏.‏ ولو قال‏:‏ أنت طالق ثلاثا يا زانية فعليه الحد دون اللعان لأنه قذف أجنبية؛ ولو قال‏:‏ يا زانية أنت طالق ثلاثا فلا حد ولا لعان، لأنه طلقها ثلاثا بعد وجوب اللعان فسقط بالبينونة؛ ولو قذف أربع نسوة لاعن مع كل واحدة منهن؛ ولو قذف أربع أجنبيات حد لهن حدا واحدا، والفرق أن المقصود في الثانية الزجر، وهو يحصل بحد واحد، أما الأول فالمقصود باللعان دفع العار عن المرأة وإبطال نكاحها عليه وذلك لا يحصل بلعان واحد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا قال‏:‏ ليس حملك مني فلا لعان‏)‏ وقالا‏:‏ إن ولدت لأقل من ستة أشهر من يوم القذف يجب اللعان لأنا تيقنا بقيام الحمل يومئذ، وله أنه يومئذ لم يتيقن بقيام الحمل فلم يصر قاذفا وإذا لم يكن قاذفا في الحال يصير كأنه قال‏:‏ إن كان بك حمل فليس مني ولا يثبت حكم القذف إذا كان معلقا بالشرط، وأجمعوا أنه لا ينتفي نسب الحمل قبل الولادة لأنه حكم عليه ولا حكم على الجنين قبل الولادة كالإرث والوصية؛ ولو نفى ولد زوجته الحرة فصدقته فلا حد ولا لعان وهو ابنهما لا يصدقان على نفيه، لأن النسب حق الولد والأم لا تملك إسقاط حق ولده فلا ينتفي تصديقها؛ وإنما لم يجب الحد واللعان لتصديقها لأنه لا يجوز لها أن تشهد أنه لمن الكاذبين وقد قالت إنه لصادق، وإذا تعذر اللعان لا ينتفي النسب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويصح نفي الولد عقيب الولادة وفي حالة التهنئة وابتياع آلة الولادة فيلاعن وينفيه القاضي وبعد ذلك يثبت نسبه ويلاعن‏)‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه مقدر بسبعة أيام لأن أثر الولادة والتهنئة فيها اعتبارا بالعقيقة، وقالا‏:‏ يصح نفيه في مدة النفاس لأنه أثر الولادة، وله أن الزوج لو نفاه عقيب الولادة انتفى بالإجماع، ولو لم ينفه حتى طالت المدة لم يكن له نفيه بالإجماع فلا بد من حد فاصل، ومعلوم أن الإنسان لا يشهد عليه بنسب ولده، وإنما يستدل علي ذلك بقبوله التهنئة وابتياع متاع الولادة وقبول هدية الأصدقاء، فإذا فعل ذلك أو مضى مدة يفعل فيه ذلك عادة وهو ممسك كان اعترافا ظاهرا فلا يصح نفيه بعده‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن كان غائبا فعلم فكأنها ولدت حال علمه‏)‏ معناه‏:‏ أنه يصح نفيه عندهما في

مدة النفاس بعد العلم‏.‏ عنده مدة التهنئة على ما بينا، لأنه لا يجوز أن يلزمه النسب مع عدم علمه فصار حال علمه كحالة الولادة على الأصلين‏.‏ وعن أبي يوسف إن علم قبل الفصال فهو مقدر بمدة النفاس وبعده ليس له أن ينفيه، لأن قبل الفصال كمدة النفاس حيث لم ينتقل عن غذائه الأول وبعده ينتقل ويخرج عن حالة الصغر فيقبح نفيه كما لو بقي شيخا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن ولدت ولدين في بطن واحد فاعترف بالأول ونفى الثاني ثبت نسبهما ولاعن، وإن عكس فنفى الأول واعترف بالثاني ثبت نسبهما وحد‏)‏ أما ثبوت النسب فلأنهما توأمان خلقا من ماء واحد، فمتى ثبت نسب أحدهما باعترافه ثبت نسب الآخر ضرورة‏.‏

وأما اللعان في الأولى والحد في الثانية فلأنه لما نفى الثاني لم يكن مكذبا نفسه فيلاعن، وفي الثانية لما نفى الأول صار مكذبا نفسه باعترافه الثاني فيحد، ولو قال في المسألة الثانية‏:‏ هما ابناي لا يحد ولا يكون تكذيبا لأنه صادق لأنهما لزماه من طريق الحكم فكان مخبرا عما ثبت بالحكم‏.‏ باب العدة وهو مصدر عده يعده، وسئل عليه الصلاة والسلام‏:‏ متى تكون القيامة ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ إذا تكاملت العدتان ‏)‏ أي عدة أهل الجنة وعدة أهل النار‏:‏ أي عددهم، وسمي الزمان الذي تتربص فيه المرأة عقيب الطلاق والموت عدة لأنها تعد الأيام المضروبة عليها وتنتظر أوان الفرج الموعود لها‏.‏ والأصل في وجوبها قوله تعالى‏:‏‏)‏ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 228 ‏]‏ وقوله تعالى‏:‏‏)‏ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 234 ‏]‏ وقوله‏:‏‏)‏ واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ‏(‏ ‏[‏ الطلاق‏:‏ 4 ‏]‏ وقوله تعالى‏:‏‏)‏ فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة‏}‏ ‏[‏ الطلاق‏:‏ 1 ‏]‏ وهي ثلاثة أنواع‏:‏ الحيض، والشهور، ووضع الحمل، وبكل ذلك نطق الكتاب‏.‏ وتجب بثلاثة أشياء‏:‏ بالطلاق، وبالوفاة، وبالوطء على ما نبينه إن شاء الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏عدة الحرة التي تحيض في الطلاق والفسخ بعد الدخول ثلاث حيض، والصغيرة والآيسة ثلاثة أشهر؛ وعدتهن في الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام‏)‏ لما تلونا من الآيات؛ والفرقة بالفسخ كالطلاق، لأن العدة للتعرف عن براءة الرحم وأنه يشملهما ‏(‏وعدة الأمة في الطلاق حيضتان‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان‏)‏ ‏(‏وفي الصغر والإياس شهر ونصف‏)‏ لأن الرق منصف إلا أن الحيضة لا تتجزئ فكملت احتياطا، وقد قال عمر رضي الله عنه‏:‏ لو استطعت لجعلتها حيضة ونصفا‏.‏

أما الشهر فيتجزئ فجعلناه شهرا ونصفا ‏(‏وعدتها في الوفاة شهران وخمسة أيام‏)‏ لما بينا ‏(‏وعدة الكل في الحمل وضعه‏)‏ لعموم قوله تعالى‏:‏‏)‏ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ‏(‏ ‏[‏ الطلاق‏:‏ 4 ‏]‏ ولأن المقصود التعرف عن براءة الرحم ولا براءة مع وجود الحمل ولا شغل بعد وضعه، وإليه الإشارة بقول عمر رضي الله عنه‏:‏ لو وضعت وزوجها على سريره لانقضت عدتها وحل لها أن تتزوج، وعن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى‏:‏ يعني سورة الطلاق قوله تعالى‏:‏‏)‏ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ‏(‏نزلت بعد التي في سورة البقرة‏:‏ يعني‏)‏ والذين يتوفون منكم ويذرون ‏(‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 234 ‏]‏ الآية؛ وإن أسقطت سقطا استبان بعض خلقه انقضت العدة وإلا فلا لأنه إذا استبان فهو ولد، وإذا لم يستبن جاز أن يكون ولدا وغير ولد فلا تنقضي العدة بالشك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا عدة في الطلاق قبل الدخول‏)‏ لقوله تعالى فيه‏:‏‏)‏ فما لكم عليهن من عدة تعتدونها‏}‏ ‏[‏ الأحزاب‏:‏ 49 ‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا على الذمية‏)‏ وقد مر في النكاح، ولا عدة في نكاح الفضولي قبل الإجازة، لأن النسب لا يثبت فيه لأنه موقوف فلم ينعقد في حق حكمه فلا يورث شبهة الملك والحل، والعدة وجبت صيانة للماء المحترم عن الخلط واحترازا عن اشتباه الأنساب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وعدة أم الولد من يموت سيدها والإعتاق ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر‏)‏ إن كانت ممن لا تحيض لما روي أن مارية القبطية أم ولد رسول الله عليه الصلاة والسلام اعتدت بعد وفاته بثلاثة أقراء ولم ينكر عليها أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فأما أنها نقلته عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإما أن يكون إجماعا منهم، وكل ذلك حجة‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ عدة أم الولد ثلاث حيض، ولو زوجها المولى ثم مات فلا عدة عليها لأن الفراش انتقل إلى الزوج، فإن طلقها الزوج وانقضت عدتها ثم مات المولى فعليها العدة لأن الفراش عاد إليه وقد زال بالموت‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والعدة تفي النكاح الفاسد والوطء بشبهة بالحيض في الموت والفرقة‏)‏ لأنه للتعرف عن براءة الرحم ولا تجب عدة الوفاة لأنها ليست بزوجة، قال‏:‏ ‏(‏وعدة امرأة الفار أبعد الأجلين في البائن وبعدة الوفاة في الرجعي‏)‏ وهي إذا طلقها وهو مريض فورثت وهي في العدة‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ عدتها ثلاث حيض في البائن لأن النكاح انقطع بالطلاق ولزمتها العدة بالحيض إلا أنه بقي أثره في الإرث لما بينا لا في تغيير العدة وبخلاف الرجعي لأن النكاح باق من كل وجه‏.‏ ولهما أنه بقي في حق الإرث فلأن يبقى في حق العدة أولى، لأن العدة مما يحتاط فيها فيجب أبعد الأجلين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو أعتقت الأمة في العدة من طلاق رجعي انتقلت عدتها إلى عدة الحرائر، وفي البائن لا‏)‏ لأن النكاح قائم من كل وجه في الرجعي دون البائن، وموته كالبينونة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو اعتدت الآيسة بالأشهر ثم رأت الدم بعد ذلك أو الصغيرة ثم رأته في خلال الشهر استأنفت بالحيض‏)‏ أما الآيسة فلأن بالعود علمنا أنها غير آيسة وأن عدتها الحيض وصارت كالممتد طهرها فتستأنف، وأما الصغيرة فلأن الجمع في عدة واحدة بين الحيض والأشهر ممتنع، لما فيه من الجمع بين البدل والمبدل، ولأنه لم يرد به أثر ولم يقل به بشر، وقد تعذر الاعتداد بالأشهر فتعين الحيض؛ أو نقول الأشهر خلف عن الحيض وقد قدرت على الأصل قبل حصول المقصود بالخلف فيجب عليها كالمتيمم إذا وجد الماء في صلاته ‏(‏ولو اعتدت بحيضة أو حيضتين ثم أيست استأنفت بالشهور‏)‏ لما بينا‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الأقراء‏]‏

الأقراء‏:‏ الحيض، وهو قول أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وابن الصامت وجماعة من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين‏.‏ وقال زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم‏:‏ إنها الأطهار، وحاصله أن اسم القرء يقع على الحيض والطهر جميعا لغة حقيقة، يقال‏:‏ أقرأت المرأة إذا حاضت، وأقرأت إذا طهرت، وأصله الوقت لمجيء الشيء وذهابه، يقال‏:‏ رجع فلان لقرئه‏:‏ أي لوقته الذي يرجع فيه، وثمرة الخلاف تظهر في انقضاء العدة؛ فمن قال إنها الحيض يقول‏:‏ لا تنقضي إلا باستكمال ثلاث حيض، ومن قال إنها الأطهار يقول‏:‏ إذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت العدة، والحمل على الحيض أولى بالنص والمعقول‏.‏

أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام للمستحاضة‏:‏ ‏(‏ دعي الصلاة أيام أقرائك ‏)‏ وإنما تترك الصلاة أيام الحيض

بالإجماع‏.‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ عدة الأمة حيضتان ‏)‏ والمعقول أنه ذكره بلفظ الجمع؛ فمن قال إنه للحيض قال‏:‏ لا بد من ثلاث حيض فيتحقق الجمع، ومن قال إنه الأطهار لا يتحقق الجمع على قوله، لأن الطلاق لو وقع في آخر الطهر انقضت العدة بطهرين آخرين وبالشروع في الثالث فلا يوجد الجمع، والعمل بما يوافق لفظ النص أولى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وابتداء عدة الطلاق عقيبه والوفاة عقيبها وتنقضي بمضي المدة وإن لم تعلم بهما‏)‏ لأن الطلاق والوفاة هو السبب فيعتبر ابتداؤها من وقت وجود السبب، وإن أقرانه طلق امرأته من وقت كذا فكذبته أو قالت لا أدري وجبت العدة من وقت إقرار ويجعل هذا إنشاء احتياطا، وإن صدقته فمن وقت الطلاق واختيار المشايخ أنه يجب من وقت الإقرار تحرزا عن المواضعة وزجرا له عن كتمان طلاقها لأنه يصير مسببا لوقوعها في المحرم ولا تجب لها نفقة العدة، ولها أن تأخذ منه مهرا ثانيا إن وجد الدخول من وقت الطلاق إلى وقت الإقرار لأنه أقر بذلك وقد صدقته‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وابتداء عدة النكاح الفاسد عقيب التفريق أو عزمه على ترك الوطء‏)‏ وقال زفر‏:‏ من آخر الوطئات لأن الوطء هو الموجب للعدة‏.‏ ولنا أن التمكين من الوطء على وجه الشبهة أقيم مقام حقيقة الوطء لخفائه فيجعل واطئا حكما إلى حالة التفريق أو عزم الترك فتجب العدة من حين انقطاع الوطء حقيقة وشرعا أخذا بالاحتياط‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا وطئت المعتدة بشبهة فعليها عدة أخرى‏)‏ لوجود السبب ‏(‏ويتداخلان، فإن حاضت حيضة ثم وطئت كملتها بثلاث أخر‏)‏ وتحسب حيضتان من العدتين وتكمل الأولى والثالثة تتمة للثانية، لأن المقصود من العدة التعرف عن براءة الرحم، وأنه حاصل بالعدة الواحدة لأنه لا بد من ثلاث حيض بعد الوطء الثاني وبه تتعرف براءة الرحم، وللثاني أن يتزوجها بعد استكمال الأولى لأنها في عدته؛ ولو وطئت المعتدة عن وفاة تممتها، وما تراه من الحيض فيها يحتسب من الثانية، فإن استكملت فبها ثلاث حيض فقد انقضتا معا وإلا تممت الثانية بما بقي من حيضها لما بينا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وأقل مدة العدة شهران‏)‏ أي مدة تنقضي فيها ثلاث حيض‏.‏ وقالا‏:‏ أقلها تسعة وثلاثون يوما وثلاث ساعات لأنهما يعتبران أقل مدة الحيض وهي ثلاثة أيام، وأقل الطهر وهو خمسة عشر يوما، ثم يقدر أن وقوع الطلاق قبل أوان الحيض بساعة فثلاثة أيام حيض، وخمسة عشر طهر، ثم ثلاثة حيض، ثم خمسة عشر طهر، ثم ثلاثة حيض فكملت العدة‏.‏ وأبو حنيفة يخرجه من طريقين‏:‏ أحدهما يعتبر أكثر الحيض احتياطا، فيبدأ بالحيض عشرة، ثم خمسة عشر طهر، ثم عشرة حيض، ثم خمسة عشر طهر، ثم عشرة حيض فذلك ستون يوما، وهذه رواية محمد، والآخر وهو رواية الحسن بن زياد أنه يعتبر الوسط من الحيض وهو خمسة أيام، ويجعل مبدأ الطلاق في أول الطهر عملا بالسنة؛ فخمسة عشر يوما طهر وخمسة حيض، هكذا ثلاث مرات يكون ستين يوما؛ والأمة تصدق عندهما في أحد وعشرين يوما، ستة أيام حيضتان، وخمسة عشر يوم طهر بينهما‏.‏ وعند أبي حنيفة على رواية الحسن أربعين يوما، وعلى رواية محمد خمسة وثلاثين، ولو كانت حاملا وقد علق طلاقها بالولادة، فعلى قياس رواية محمد عن أبي حنيفة لا يصدق في أقل من خمسة وثمانين يوما، وعلى قياس رواية الحسن مائة يوم، وعلى قياس قول أبي يوسف خمسة وستون، وفي الأمة على رواية محمد خمسة وستون، ورواية الحسن خمسة وسبعون، وعن أبي يوسف سبعة وأربعون، وعن محمد ستة وثلاثون وثلاث ساعات، ويعرف ذلك لمن يتأمله بتوفيق الله تعالى‏.‏ ثم إن وقع الطلاق للآيسة والصغيرة أو الموت غرة الشهر اعتبرت الشهور بالأهلة بالإجماع وإن نقص عددها، وإن وقع ذلك في وسط الشهر تعتبر بالأيام فتعتد في الطلاق بتسعين يوما، وفي الوفاة مائة وثلاثين يوما وهو رواية عن أبي يوسف‏.‏ وروي عنه وهو قول محمد تعتد بقية الشهر بالأيام وتكمله من الشهر الرابع، وتعتد فيما بينهما بالأهلة، لأن الأصل اعتبار الشهور بالأهلة إلا عند التعذر، وقد تعذر في الأول فيعمل فيه بالأيام لأنها كالبدل عن الأهلة، ويعمل في الباقي بالأصل‏.‏ ولأبي حنيفة أنه لا يدخل الشهر الثاني ولا يعد إلا بعد انقضاء الأول، ولا انقضاء للأول إلا بعد استكماله فيكمل الأول من الثاني، وهكذا الثاني مع الثالث فتعذر اعتبار الأهلة في الكل، وعلى هذا مدة الإيلاء واليمين إذا حلف لا يفعل كذا سنة والإجارات ونحوها‏.‏ وإذا قالت‏:‏ انقضت عدتي صدقت لأنها أمينة فإن كذبها الزوج حلف كالمودع‏.‏ واختلف أصحابنا في حد الإياس، قال بعضهم‏:‏ يعتبر بأقرانها من قرابتها، وقيل يعتبر بتركيبها أنه يختلف بالسمن والهزال‏.‏ وعن محمد أنه قدره بستين سنة‏.‏ وعنه في الروميات بخمس وخمسين، وفي المولدات ستين، وقيل خمسين سنة، والفتوى على خمس وخمسين من غير فصل وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، وعنه أيضا ما بين خمس وخمسين إلى ستين‏.‏ وذكر محمد في نوادر الصلاة‏:‏ العجوز الكبيرة إذا رأت الدم مدة الحيض فهو حيض إذا لم يكن عن آفة‏.‏ وقال محمد بن مقاتل الرازي‏:‏ هذا إذا لم يحكم بإياسها، فأما إذا حكم بإياسها ثم رأت الدم لا يكون حيضا وهو الصحيح‏.‏ والمرأة إذا لم تحض أبدا حتى بلغت مبلغا لا يحيض فيه أمثالها غالبا حكم بإياسها‏.‏ وذكر في الجامع الصغير‏:‏ إذا بلغت ثلاثين سنة ولم تحض حكم بإياسها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا ينبغي أن تخطب المعتدة‏)‏ لقوله تعالى‏:‏‏)‏ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 235 ‏]‏ المراد به المعتدات بالإجماع، لأن الله تعالى نفى الجناح في التعريض وأنه يدل على أن تركه أولى فيلزم كراهة التصريح بطريق الأولى ‏(‏ولا بأس بالتعريض‏)‏ لأنه تعالى نفى الجناح فإنه دليل الإباحة‏.‏ وروي أنه عليه الصلاة والسلام دخل على أم سلمة وهي في العدة فذكر منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير على يده من شدة تحامله عليها وأنه تعريض، والتعريض مثل أن يقول‏:‏ إني فيك لراغب، وأود أن أتزوجك، وإن تزوجتك لأحسنن إليك، ومثلك من يرغب فيه ويصلح للرجال ونحوه‏.‏ وعن النخعي لا بأس بأن يهدي إليها ويقوم بشغلها في العدة إن كانت من شأنه، والتصريح قوله‏:‏ أنكحك، وأتزوج بك ونحوه وأنه مكروه، قال تعالى‏:‏‏)‏ ولكن لا تواعدوهن سرا‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 235 ‏]‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ السر النكاح ‏)‏ وهذا كله في المبتوتة والمتوفى عنها زوجها‏.‏

أما المطلقة الرجعية فلا يجوز التصريح ولا التلويح لأن نكاح الأول قائم على ما بينا‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الحداد‏]‏

‏(‏وعلى المعتدة من نكاح صحيح عن وفاة أو طلاق بائن إذا كانت بالغة مسلمة حرة أو أمة الحداد‏)‏ ويقال الإحداد‏.‏ والأصل فيه ما روي أن امرأة مات عنها زوجها فجاءت إلى رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ تستأذنه في الانتقال فقال‏:‏ ‏(‏ كانت إحداكن تمكث في أشر أحلاسها إلى الحول، أفلا أربعة أشهر وعشرا ‏؟‏ ‏)‏ فدل أنه يلزمها أن تقيم في شر أحلاسها أربعة أشهر وعشرا‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت ثلاثة أيام فما فوقها إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا ‏)‏ وروي أنه عليه الصلاة والسلام نهى المعتدة أن تختضب بالحناء وقال‏:‏ ‏(‏ الحناء طيب ‏)‏ وأنه عام في كل معتدة، ولأنه لما حرم عليها النكاح في العدة أمرت بتجنب الزينة حتى لا تكون بصفة الملتمسة للأزواج وأنه يعم الفصلين، ولأنها وجبت إظهارا للتأسف على فوت نعمة النكاح الذي كان سبب مؤونتها وكفايتها من النفقة والسكنى وغير ذلك، وأنه موجود في المبتوتة والمتوفى عنها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهو ترك الطيب والزينة والكحل والدهن والحناء إلا من عذر‏)‏ لنهيه عليه الصلاة والسلام عن الحناء، وقوله‏:‏ ‏(‏ الحناء طيب ‏)‏ فدل على أن الطيب محظور عليها، ويدخل فيه الثوب المطيب والمعصفر والمزعفر حتى قالوا‏:‏ لو كان غسيلا لا ينقض جاز لأنه لم يبق له رائحة، فإن لم يكن لها إلا ثوب واحد مصبوغ لا بأس به لأنه عذر، ولا تمتشط لأنه زينة، فإن كان فالأسنان المنفرجة دون المضمومة، ولا تلبس حليا لأنه زينة، ولا تلبس قصبا ولا خزانة لأنه زينة‏.‏ وعن أبي يوسف لا بأس بالقصب والخز الأحمر‏.‏ فالحاصل أن ذلك يلبس للحاجة ويلبس للزينة فيعتبر القصد في لبسه، وقد صح ‏(‏ أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن للمبتوتة في الاكتحال، بخلاف حالة التداوي لأنه عذر، فكان ضرورة دين التزين؛ وكذا إذا خافت من ترك الدهن والكحل حدوث مرض بأن كانت معتادة لذلك يباح لها ذلك‏.‏ ولا إحداد على صغيرة ولا مجنونة لعدم الخطاب ولأنها عبادة حتى لا تجب على الكافرة؛ بخلاف الأمة لأنها أهل للعبادات وليس فيها إبطال حق المولى، وليس في عدة النكاح الفاسد إحداد لأنه لا يتأسف على زواله لأنه واجب الزوال ولأنه نقمة فزواله نعمة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تخرج المبتوتة من بيتها ليلا ولا نهارا‏)‏ لقوله تعالى‏:‏‏)‏ لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن‏}‏ ‏[‏ الطلاق‏:‏ 1 ‏]‏ ولأن نفقتها واجبة على الزوج فلا حاجة لها إلى الخروج كالزوجة، حتى لو اختلعت على أن لا نفقة لها قيل تخرج نهارا لمعاشها، وقيل لا وهو الأصح، لأنها اختارت إسقاط نفقتها فلا يؤثر في إبطال حق المختلعة عليها على أن لا سكنى لها لا يجوز لها الخروج‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمعتدة عن وفاة تخرج نهارا وبعض الليل وتبيت في منزلها‏)‏ لأنه لا نفقة لها فتضطر إلى الخروج لإصلاح معاشها وربما امتد ذلك إلى الليل‏.‏ وعن محمد لا بأس بأن تبيت في غير منزلها أقل من نصف الليل لما بينا ‏(‏والأمة تخرج لحاجة المولى في العدتين في الوقتين جميعا‏)‏ لما في المنع من إبطال حقه، وحق العبد مقدم على حق الله تعالى، وإن كان المولى بوّأها لم تخرج ما دامت على ذلك إلا أن يخرجها المولى، وكذلك المكاتبة والكتابية تخرج إلا إذا منعها الزوج لصيانة مائه، والمجنونة والمعتوهة كالذمية، والصبية تخرج لأنها لا يلزمها العبادات، ولا حق للزوج لأنه لحفظ الولد، ولا ولد إلا في الطلاق الرجعي، فلا تخرج إلا بإذن الزوج لبقاء الزوجية على ما مر‏.‏ ‏(‏وتعتد في البيت الذي كانت تسكنه حال وقوع الفرقة‏)‏ لأنه البيت المضاف إليه بقوله تعالى‏:‏‏{‏من بيوتهن‏}‏ لأنه هو الذي تسكنه، وقال عليه الصلاة والسلام للتي قتل زوجها‏:‏ ‏(‏ اسكني في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إلا أن ينهدم أو تخرج منه أو لا تقدر على أجرته فتنتقل‏)‏ لما يلحقها من الضرر في ذلك‏.‏

أما إذا انهدم فلأن السكنى في الخربة لا تأمن على نفسها ومالها، ثم قيل تنتقل حيث شاءت إلا أن تكون مبتوتة فتنتقل إلى حيث شاء الرجل لأنه المخاطب بقوله تعالى‏:‏‏)‏ أسكنوهن‏}‏ ‏[‏ الطلاق‏:‏ 6 ‏]‏ وإذا حولها الورثة أو صاحب المنزل فهي معذورة في ذلك‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه نقل ابنته أم كلثوم لما قتل عمر رضي الله عنه لأنها كانت في دار الإمارة وعائشة رضي الله عنها نقلت أختها لما قتل طلحة رضي الله عنه، ولو طلب منها أكثر من أجرة المثل فلما يلحقها من الضرر، وصار كثمن الماء للمسافر يجوز له التيمم إذا كان بأكثر من ثمن المثل، ولو أبانها والمنزل واحد يجعل بينه وبينها سترة، وكذلك الورثة في الوفاة، فإن لم يجعلوا انتقلت تحررا عن الفتنة، وإذا كان المطلق غائبا وطلب أهل المنزل الأجرة أعطتهم بإذن القاضي ويصير دينا على الزوج‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في أقل مدة الحمل‏]‏

‏(‏أقل مدة الحمل ستة أشهر‏)‏ لما روي أن رجلا تزوج امرأة فجاءت بولد لستة أشهر فهم عثمان برجمها، فقال ابن عباس‏:‏ لو خاصمتكم بكتاب الله لخصمتكم، فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏}‏ ‏[‏ الأحقاف‏:‏ 15 ‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 233 ‏]‏ فبقي لمدة الحمل ستة أشهر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وأكثرها سنتان‏)‏ لما روي عن عائشة أنها قالت‏:‏ لا يبقى الولد في رحم أمه أكثر من سنتين ولو بفركة مغزل، وذلك لا يعرف إلا توقيفا إذ ليس للعقل فيه مجال، فكأنها روته عن النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا أقرت بانقضاء العدة ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ثبت نسبه‏)‏ لأنه ظهر كذبها بيقين فصار كأنها لم تقر به ‏(‏و‏)‏ إن جاءت به ‏(‏لستة أشهر لا‏)‏ يثبت، لأنه لم يظهر كذبها فيكون من حمل حادث بعده فلا يثبت نسبه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويثبت نسب ولد المطلقة الرجعية، وإن جاءت به لأكثر من سنتين ما لم تقر بانقضاء العدة‏)‏ لاحتمال الوطء والعلوق في العدة لجواز أن تكون ممتدة الطهر ‏(‏فإن جاءت به لأقل من سنتين بانت‏)‏ لانقضاء العدة ‏(‏ويثبت النسب‏)‏ لوجود العلوق في النكاح أو في العدة ‏(‏ولا يصير مراجعا‏)‏ لأنه يحتمل العلوق قبل الطلاق، ويحتمل بعده فلا يصير مراجعا بالشك ‏(‏وإن جاءت به لسنتين أو أكثر كان رجعة‏)‏ لأن العلوق بعد الطلاق، والظاهر أنه منه وأنه وطئها في العدة حملا لحالهما على الأحسن والأصلح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويثبت نسب ولد المبتوتة والمتوفى عنها زوجها لأقل من سنتين‏)‏ لاحتمال أن الحمل كان قائما وقت الطلاق فلا يكون الفراش زائلا بيقين فيثبت النسب احتياطا ‏(‏ولا يثبت لأكثر من ذلك إلا أن يدعيه‏)‏ لأنا تيقنا بحدوث الحمل بعد الطلاق فلا يكون منه إلا أن يدعيه فيجعل كأنه وطئها بشبهة العدة‏.‏

وقال زفر‏:‏ في عدة الوفاة إذا جاءت به بعد انقضائها لستة أشهر لا يثبت، لأن الشرع حكم بانقضائها بالأشهر فصار كإقرارها‏.‏ وجوابه أنه لانقضاء العدة وجه آخر وهو وضع الحمل، بخلاف الصغيرة لأن الأصل عدم الحمل فيها لعدم المحلية فوق الشك في البلوغ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يثبت نسب ولد المعتدة إلا بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، أو حبل ظاهر، أو اعتراف الزوج، أو تصديق الورثة‏)‏ وقالا‏:‏ يثبت بشهادة امرأة واحدة لأن الفراش قائم لقيام العدة، وهو ملزم للنسب كقيام النكاح‏.‏ ولأبي حنيفة أنها لو أقرت بوضع الحمل انقضت العدة، والمنقضي لا يكون حجة فيحتاج إلى إثبات النسب فلا بد من حجة كاملة‏.‏

أما إذا ظهر الحبل أو اعترف به الزوج فالنسب ثابت قبل الولادة والحاجة إلى التعيين وأنه يثبت بشهادتها، وكذا إذا اعترف به الورثة بعد الموت‏.‏ وهذا في حق الإرث ظاهر لأنه حقهم‏.‏

وأما النسب فإن كانوا من أهل الشهادة ثبت بشهادتهم، ولا يثبت في حقهم باعترافهم ويثبت في حق غيرهم تبعا للثبوت في حقهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يثبت نسب ولد المطلقة الصغيرة رجعية كانت أو مبتوتة إلا أن تأتي به لأقل من تسعة أشهر، وفي عدة الوفاة لأقل من عشرة أشهر وعشرة أيام بساعة‏)‏ وقال أبو يوسف في المبتوتة‏:‏ يثبت إلى سنتين لأنها معتدة لم تقر بانقضاء العدة، ويحتمل أن تكون حاملا وصارت كالبالغة‏.‏ ولهما أنه تعين لانقضاء عدتها جهة واحدة وهي الأشهر، فإذا مضت حكم الشرع بانقضائها وهو أقوى من الإقرار لاحتمال الخلف في الإقرار دونه‏.‏

وأما الرجعي، قال أبو يوسف‏:‏ يثبت إلى سبعة وعشرين شهرا لأنه يجعل واطئا في آخر العدة وهي ثلاثة أشهر ثم تأتي به لأكثر مدة الحمل وهي سنتان؛ ولو ادعت الصغيرة الحبل في العدة فهي كالكبيرة في الحكم لأنه ثبت بلوغها بإقرارها ‏(‏ولو قال لها‏:‏ إن ولدت فأنت طالق فشهدت امرأة بالولادة لم تطلق‏)‏ وقالا‏:‏ تطلق لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ شهادة النساء جائزة فيما لا يطلع عليه الرجال ‏)‏ فكانت شهادتها حجة في الولادة، فتكون حجة فيما يبتني عليه وهو الطلاق‏.‏ ولأبي حنيفة أنها ادعت على زوجها الحنث فلا يثبت إلا ببينة كاملة، وشهادتها ضرورية في الولادة فلا تتعدى إلى الطلاق لأنه ينفك عنه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن اعترف بالحبل تطلق بمجرد قولها‏)‏ وقالا‏:‏ لا بد من شهادة امرأة تشهد بالولادة لأنها ادعت فلا بد من حجة‏.‏ وله أنه أقر بالحبل فيكون إقرارا بالولادة لأنه يفضي إليه، ولأنه أقر بكونها أمينة فيقبل قولها في رد الأمانة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو قال لأمته‏:‏ إن كان في بطنك ولد فهو مني فشهدت امرأة بالولادة فهي أم ولده‏)‏ لأن الحاجة إلى تعيين الولد، وإنه يثبت بالقابلة إجماعا‏.‏

تم الجزء الثالث من الاختيار لتعليل المختار‏.‏

ويليه‏:‏ الجزء الرابع، وأوله‏:‏ باب النفقة‏.‏